Screen Shot 2020-04-14 at 1.14.24 PM
الـ «مشخل»
15 مايو 2020
15 مايو 2020
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
نشر الزميل سعيد البحري المصور الصحفي قبل أيام صورة لـ «مشخل» تاركا موضوع التعليق عليها من قبل الآخرين، دون أن يحمل نفسه مشقة طرح قضية ما من خلال نشر هذه الصورة، والـ «مشخل» لمن لا يعرفه على وجه الدقة هو أحد الأواني المستخدمة للطبخ، حيث ومن خلاله يفصل الماء عن أي مادة غذائية يقوم (الطابخ/ الطابخة) بذلك، بغية إكسابها نوعا من الصلابة، أو التوقف عند مستوى معين من مستويات الطبخ، ربما تختلف المسميات بين بيئة اجتماعية وأخرى. هنا، أذهب أكثر إلى المعنى الرمزي لـ «المشخل» أكثر من المعنى الميكانيكي المستخدم حاليا لوظيفته الحقيقية، فـ «كثيرة هي الأشياء من حولنا تحتاج إلى هذا المشخل وبين كل فترة وأخرى علينا أن نعود إلى هذا المشخل، فالأشياء تتجدد، والمواقف تتبدل، والرؤى تتغير، إذن والحالة هكذا علينا أن نجعل هذا المشخل يقود عربتنا التي تنقلنا بين محطة وأخرى من محطات حياتنا»- نص تعليقي السابق على صورة الـ «مشخل». يذهب المعنى الميكانيكي لـ «المشخل» إلى الفصل بين مادتين، كما قلت في المقدمة، ولكن المعنى الرمزي يذهب أكثر إلى الانتقاء، وإلى البحث عن بديل، وإلى التنقية والتصفية، حتى بين الفترات الزمنية التي نعيشها، وليس فقط بيننا كأفراد، وإذا لم يقم الـ «مشخل» كمحدد مهم للترقي بين هذه المراحل التي نمر بها فإننا يقينا، لم نتعلم الكثير من حيواتنا التي مرت علينا عبر مراحل زمن النمو التي مررنا بها، من الطفولة، إلى الكهولة، ربما قد نمارس هذه الآليات الانتقائية في حياتنا دون أن نستحضر الـ «مشخل» كأداة استخدام لتنقية الكثير من الشوائب التي تصادفنا، وهذا أمر متوقع، ولا بأس فيه، ولكن عندما نعطي مثل هذه الأدوات رمزيتها الثانوية، فإننا ننزلها المنزلة المباركة، ونعلي من شأن استخداماتها، وأهميتها في حياتنا اليومية، كما هو الحال في المثل الذي يضرب دائما في «العربة والحصان» وحالة المكابدة التي تحدث عندما نغير من الوضع الصحيح لدور الحصان، ودو العربة، فكلاهما غير عاقلين، ودورهما الميكانيكي معروف ولا يحتاج إلى كثير من إعمال العقل، ولكن لدورهما الرمزي هناك تتسع المساحة أكثر للحديث، وللتعليل، وللتصويب، ولذا عندما يأتي استحضارهما في أمثلة كثيرة من الحياة، يكون للحديث معنى آخر جميل. كثير من يسترشد بكتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، الذي كتبه بذكاء شديد على ألسنة الحيوانات؛ لأن الحيوانات لا تتكلم، وإن استطاع الإنسان في العمر المتأخر من العلاقة القائمة بينهما في توظيف الحيوانات وتسخيرها لمآربه الخاصة، حيث دربها على فهم ما لم تفهم، وجعلها تقوم بأدوار ما لم تعلم، من خلال «لي ذراعها» بإشباع الغريزة لا أكثر، ولذلك عندما جاعت أكلته، وأقلها آذت على مسمع العالم وبصره، فذلك مبلغ تعقلها في علاقتها معه، وتلك هي الفطرة، ولكن في جانبها الرمزي استطاعت بعض الحيوانات أن تكون أليفة، ووفية، وحامية، ومدافعة عن أصحابها، ممن تكن لهم فضل إشباع غريزتها، وسبحان الله أحسن الخالقين. إذن، يأتي الـ «مشخل» واحدا من قصص علاقاتنا مع الأشياء والأدوات من حولنا، وبذكاء الإنسان استطاع أن يحوله من وظيفة ميكانيكية بحتة، إلى وظيفة رمزية خصبة بالمعاني، وبالرؤى، وأكسبه عمرا آخر، ضاعف من أهميته كأداة قابعة من المطابخ فقط، إلى حالة رمزية لها دور كبير في حياتنا كبشر، ولعلنا كذلك نستحضر هنا مفردات الشاعر علي بن الجهم عندما حل ضيفا على المتوكل الخليفة العباسي المعروف وشبهه بالدلو في العطاء، وبالتيس في قروع الخطوب، وفي الكلب في حفظه للود، فهذا الاسترسال الجميل في توظيف الأدوات، لعله يعطي اللغة قوتها، والمفردات جزالتها، ويضفي على السامع مساحة من الخيالات الرائعة.
