الملف السياسي

التوازنات الإقليمية لما بعد قرار الرئيس الأمريكي

21 يناير 2019
21 يناير 2019

د.أحمد سيد أحمد -

الانسحاب الأمريكي من سوريا من شأنه أن يعيد تشكيل خريطة التحالفات والتوازنات خاصة الإقليمية في المشهد السوري، فمن ناحية فإن الوجود الأمريكي في سوريا ليس وجودا عسكريا بقدر ما هو وجود سياسي لموازنة الأدوار الأخرى خاصة الدور الروسي ولدعم الأكراد.

أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا ردود أفعال كثيرة، تباينت ما بين الترحيب ما جانب تركيا وما بين التشكيك من جانب روسيا والحكومة السورية، حيث اعتبرتا أن هذا الانسحاب غير جدي ولا يتجاوز كونه خطوة تكتيكية، وما بين المعارضة خاصة من جانب قوات سوريا الديمقراطية التي اعتبرت أن واشنطن تخلت عنها وتركتهما لقمة سائغة لتركيا، وما بين القلق من جانب الدول الحليفة للولايات المتحدة التي اعتبرت أن الانسحاب الأمريكي الانفرادي من سوريا ستترتب عليه تداعيات سلبية كبيرة وحالة من الفراغ ستسعى دول أخرى لملئها خاصة تركيا وروسيا وإيران، وحذرت تلك الأطراف من تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2011 في عهد أوباما وما تركه من فراغ أدى في النهاية إلى سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على ثلث مساحة العراق في عام 2014. لكن ما بين الترحيب والتشكيك والمعارضة والقلق تثير خطوة الانسحاب الأمريكي العديد من التداعيات على المشهد السوري بشكل عام وخاصة لعبة التوازنات السابقة حيث شكلت سوريا ساحة للتنافس الإقليمي والدولي في إطار أجندات المصالح المتعارضة وتداخل أطراف عديدة في الأزمة المستمرة منذ أكثر من تسع سنوات.

الترحيب بالانسحاب جاء من جانب تركيا بالأساس حيث تريد أن توظف هذا الانسحاب لتحقيق أهدافها في شمال وشمال شرق سوريا والمتمثلة في القضاء على وحدات الحماية الكردية، التي تعد العصب الرئيسي لقوات سوريا الديمقراطية، والتي تصنفها أنقرة بأنها منظمة إرهابية وتعتبرها امتدادا لحزب العمال الكردستاني المعارض في تركيا والمصنف أيضا بأنه إرهابي من جانب أنقرة، وقامت تركيا بالفعل في العديد من العمليات العسكرية في الأراضي السورية خلال الأعوام الأخيرة منها عملية درع الفرات وعملية غصن الزيتون والتي سيطرت من خلالها على العديد من المدن في شمال سوريا مثل الباب وجرابلس وعفرين، وطردت قوات الحماية الكردية منها، لكن المساعي التركية لاقتحام مدينة منبج ومناطق شرق الفرات توقفت حيث اصطدمت بالوجود العسكري الأمريكي في تلك المنطقة، حيث تدعم القوات الأمريكية البالغ عددها ألفين من الضباط والقوات الخاصة، القوات الكردية وتقوم بتدريبها ومساعدتها لوجيستيا وعسكريا خاصة في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي، وقد هددت تركيا باقتحام منبج أكثر من مرة لكن المعارضة الأمريكية ساهمت في إبطاء وتأجيل هذا القرار أكثر من مرة خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي قراره بانسحاب قواته من سوريا، حيث أعلن الرئيس التركي أردوغان تأجيل اقتحام منبج ومناطق شرق الفرات، لكن بعد المعارضة الشديدة لقرار الانسحاب خاصة من جانب الأكراد ومن داخل الولايات المتحدة ذاتها حيث استقال وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس احتجاجا على قرار ترامب بالانسحاب، كما اعترض العديد من أعضاء الكونجرس الأمريكي على الانسحاب وحذروا من تداعياته السلبية سواء على احتمالات عودة تنظيم داعش أو قيام إيران بملء الفراغ الأمريكي في سوريا كما فعلت في العراق أو بتعريض أمن إسرائيل، حليفة واشنطن، للخطر، بعد هذه المعارضة تراجع الرئيس ترامب عن الانسحاب السريع للقوات الأمريكية إلى الانسحاب البطيء لمدة أربعة اشهر ثم الانسحاب المشروط بضمانات حماية الأكراد والقضاء على تنظيم داعش.

وقد أدى هذا التباطؤ الأمريكي وربط الانسحاب بحماية الأكراد والطلب من تركيا بتقديم ضمانات لحماية الأكراد إلى توتر العلاقات بين أمريكا وتركيا التي تصر على محاربة وحدات الحماية الكردية، وأدى ذلك إلى تصعيد الرئيس ترامب خطابه والتهديد بتدمير الاقتصاد التركي ثم التراجع وإعلان البلدين عن إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا بطول الحدود البالغة 460 كيلو مترا وبعمق مساحة 309 كيلو مترات داخل الأراضي السورية وهو ما أثار أيضا اعتراضات كبيرة من جانب النظام السوري الذي اعتبره انتقاصا من السيادة السورية كما أبدت روسيا تحفظها، وطالبت الولايات المتحدة بتسليم الأماكن التي تنسحب منها في شرق الفرات إلى القوات السورية وقامت روسيا بالفعل بتسيير دوريات عسكرية في محيط مدينة منبج وبعض المناطق الأخرى في شرق الفرات.

الانسحاب الأمريكي من سوريا من شأنه أن يعيد تشكيل خريطة التحالفات والتوازنات خاصة الإقليمية في المشهد السوري، فمن ناحية فإن الوجود الأمريكي في سوريا ليس وجودا عسكريا بقدر ما هو وجود سياسي لموازنة الأدوار الأخرى خاصة الدور الروسي ولدعم الأكراد، حيث يوجد ألفا جندي أمريكي مهمتهم الأساسية هي التدريب والدعم ولم يدخلوا قط في أية مواجهات عسكرية أو اشتباك سواء مع قوات داعش أو مع القوات الأخرى الموجودة في سوريا، ولذلك فإن الانسحاب الذي جاء لاعتبارات انتخابية من جانب الرئيس ترامب لإظهار تنفيذه لوعوده الانتخابية، وذلك استعدادا لانتخابات الرئاسة في عام 2020، يثير التساؤلات حول من يملأ الفراغ الأمريكي، بالطبع تريد واشنطن أن توكل مهمة محاربة القضاء على ما تبقى من داعش للروس والأتراك، لكن التفويض الأمريكي للأتراك ترتب عليه سوء فهم بين البلدين، حيث اعتبرت واشنطن أن تفويضها لتركيا في سوريا بعد الانسحاب يقتصر بالأساس على محاربة داعش وأن أنقرة تجاوزت ذلك التفويض بالقضاء على الأكراد، وهو ما دفعها للتراجع عن الانسحاب الفوري ومطالبة تركيا بتقديم ضمانات، في المقابل لن تقبل تركيا بالمساومة حول قوات وحدات الحماية، ومن هنا جاء التعقيد في قضية الانسحاب وانعكاساته على المشهد السوري والتوازنات الإقليمية.

فمن ناحية فإن تركيا لن تستطيع تحدي واشنطن والمضي قدما في محاربة الأكراد خاصة في شرق الفرات وذلك خشية من إجراءات انتقامية اقتصادية من جانب واشنطن واحتمالات المواجهة العسكرية مع القوات الأمريكية المنتشرة في ثماني نقاط للمراقبة العسكرية، ومن ناحية ثانية فإن إنشاء منطقة آمنة بهذه المساحة الكبيرة في شمال سوريا قد تؤدي أيضا إلى الصدام بين القوات التركية والقوات السورية إضافة إلى القوات الروسية والقوات الأخرى الحليفة للنظام السوري. إضافة إلى صعوبة قيام تركيا بتأمين تلك المنطقة الآمنة الكبيرة في شمال سوريا.

ومن ناحية ثانية فإن هذا الانسحاب والتداعيات المترتبة عليه على أرض الواقع قد تؤثر أيضا بشكل كبير على مستقبل الأزمة السورية وفرص التسوية السلمية النهائية، حيث لم تتضح الصورة حتى الآن فيما يتعلق بالحل السياسي وقضايا الدستور والانتخابات ومستقبل الوجود العسكري الأجنبي في البلاد واحتمالات المواجهة بين إسرائيل والقوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا وغيرها من القضايا التي تعني دخول سوريا لمرحلة جديدة من التوازنات السياسية والعسكرية دون وجود أفق واضح لإنهاء الأزمة بشكل جذري.

وبالطبع فإن الخروج من الأزمة السورية يتطلب أولا خروج كافة القوى الأجنبية من البلاد بما فيها القوات الأمريكية والحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال واستقرار سوريا، وثانيا دعم الحل السياسي التوافقي بين كل أبناء الشعب السوري لتقرير مصيرهم بأيديهم وليس بأيدي الآخرين والتعلم من تجربة الحرب المريرة خلال السنوات السابقة والتي كان الكل فيها خاسرا وكان الخاسر الأكبر هو الشعب السوري من مئات الآلاف من القتلى وملايين المهاجرين واللاجئين وتدمير بنيته الأساسية، وثالثا عودة سوريا لبيتها العربي باعتباره جزءا من الأمة العربية، ولذلك شكل التقارب العربي مع سوريا وإعادة بعض الدول العربية فتح سفارتها في دمشق، خطوة إيجابية في اتجاه دعم سوريا والشعب السوري ومساعدتها على الخروج من أزمتها وكذلك موازنة الدور العربي للأدوار الإقليمية الأخرى في سوريا، وتقليل التداعيات السلبية للانسحاب الأمريكي، خاصة فيما يتعلق باحتمالات عودة تنظيم داعش ومحاولات القوى الإقليمية غير العربية ملء الفراغ الأمريكي بما يؤثر سلبا على الأمن القومي العربي.