الملف السياسي

حتى لا تتحول أوروبا إلى رهينة أو ساحة للصراع !!

29 أكتوبر 2018
29 أكتوبر 2018

د. عبدالحميد الموافي -

ترامب يريد أن يقيد قدرات الصين في مجال إنتاج ونشر الصواريخ النووية متوسطة المدى، ولكن ذلك سيتطلب الدخول في مفاوضات ثلاثية روسية - أمريكية صينية للتوصل إلى صيغة جديدة، أو إلى معاهدة جديدة في هذا الشأن، والمؤكد أن المناخ الحالي للعلاقات بين واشنطن وكل من موسكو وبكين لا يساعد على ذلك، فهل يتحول إعلان ترامب النية في الانسحاب إلى مجرد إعلان انتخابي.

بالرغم من أن القوة، سواء بمعناها التقليدي - القوة العسكرية - أو بمعناها الأكثر تطورا في العقود الأخيرة - أي بأشكالها التكنولوجية والرقمية والاقتصادية والمالية والإعلامية والثقافية - لا تزال تشكل ركيزة أساسية وملموسة لإدارة العلاقات بين الدول في عالم اليوم، بوسائل وأساليب عديدة لممارسة التأثير في مواقف الطرف، أو الأطراف الأخرى، في الظروف المختلفة، إلا أن القوى الدولية الفاعلة والدول الأخرى حاولت وتحاول، خاصة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، إرساء علاقاتها وإدارتها على أسس وقواعد واضحة ومستقرة بقدر الإمكان، تجنبا لصراعات وخلافات يمكن أن تجرها، أو تضطرها، إلى الدخول في صراعات ومنافسات تعرض أمنها وأمن العالم ككل إلى خطر كبير.

وفي هذا الإطار تمت، وتتم، العديد من المعاهدات والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف والجماعية الدولية أيضا، في محاولات متكررة ومستمرة، للوصول إلى نقاط اتفاق وتوافق بين الأطراف المعنية، وعلى المستويات والمجالات ذات الأولوية لمصالحها المشتركة والمتبادلة، من أجل إدارة علاقاتها وتحقيق مصالحها على النحو الذي تراه ممكنا وملائما لها.

وإذا كانت المواثيق والمعاهدات الشارعة على المستوى الدولي، كميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات والمعاهدات المنظمة للتعاون الدولي على نطاق عالمي تزداد أهميتها - كاتفاقيات المناخ، ومنع استخدام القوة أو التهديد بها، وتنظيم التجارة العالمية، والحد من التسلح ومنع الانتشار النووي وتحريم استخدام أسلحة الدمار الشامل وغيرها - باتت أكثر احتراما من جانب القوى والدول المختلفة، إلا في حالات محددة ومعروفة، فإن المعاهدات والاتفاقيات الثنائية بين القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق بعد تفككه عام 1991، وهي اتفاقيات على جانب كبير من الأهمية، خاصة في مجالات تحتفظ فيها تلك القوى بتأثير متفرد، بحكم إمكاناتها وقدراتها العلمية والتطويرية والتسليحية ومصالحها التي تمتد إلى كل أرجاء المعمورة بشكل أو بآخر، تظل مرهونة في الواقع برغبة تلك القوى - الأطراف فيها - في الالتزام الجاد بها، وتهتز تلك المعاهدات والاتفاقيات عندما تهتز رغبة تلك القوى، أو بعضها في الالتزام بها، أو احترامها، وهو ما تترتب عليه نتائج كثيرة تتجاوز بالتأكيد المصالح المباشرة لأطراف تلك المعاهدات، وآخر نموذج في هذا المجال هو ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام من عزمه على الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وهي الاتفاقية التي تم إبرامها في عام 1987، وتم توقيعها في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي رونالد ريجان والسوفييتي ميخائيل جورباتشوف.

ولعل من أهم نتائج تلك الاتفاقية، التي أنهت أزمة كبيرة في الثمانينات من القرن الماضي بين موسكو وواشنطن، وفي ذروة من ذرى الحرب الباردة، أنها قضت بتدمير الصواريخ النووية متوسطة المدى المتوفرة لدى كل من واشنطن وموسكو من ناحية، وعدم نشر مثل تلك الصواريخ في أوروبا من ناحية ثانية، وبالطبع كانت أوروبا في ذلك الوقت تعني أوروبا الغربية، التي يظلها حلف شمال الأطلنطي والولايات المتحدة بشكل خاص بمظلتها النووية، وأوروبا الشرقية التي كانت مجالا حيويا للاتحاد السوفييتي السابق وكانت تحت مظلته ومظلة حلف وارسو. وبالفعل تم تحقيق هذين الهدفين المشار إليهما، وإن كان إنتاج الصواريخ النووية متوسطة المدى، سواء من جانب الولايات المتحدة أو روسيا الاتحادية بعد ذلك لم يتم الالتزام به بشكل جاد، ولكن ذلك لم يثر مشكلة، لأن إنتاج هذه النوعية من الأسلحة ظل في المخازن أو ضمن استخدامات الجيوش، ولم يتم نشره خارج أراضي أي من القوتين الكبيرتين، غير أن المشكلة حول تلك النوعية من الصواريخ وغيرها، كانت تطل برأسها عندما تعمد أي من القوتين الكبيرتين - روسيا وأمريكا - إلى تدعيم - أو محاولة تدعيم نفوذها ووجودها العسكري المباشر في أوروبا، وازداد الأمر حساسية بالنسبة لروسيا بعد تفكك حلف وارسو، وميل حلف الأطلنطي إلى التمدد في أوروبا الشرقية وضم عددا من دوله، ومنها بولندا ورومانيا وغيرهما إلى عضويته، وهو ما نظرت إليه موسكو على أنه تهديد مباشر لها، وحذرت كثيرا من تمدد حلف الأطلنطي للاقتراب من حدودها، وتفجرت الخلافات بشكل كبير وخطر عندما تحدثت واشنطن عن رغبتها في نشر مظلة صواريخها المضادة للصواريخ لحماية دول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف الأطلنطي، وحماية أوروبا الغربية كذلك في أواخر التسعينات والعقد الأول من هذا القرن، وهو ما أوقف هذا التوجه من جانب واشنطن بشكل أو بآخر خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق أوباما.

وفي إطار ما أعلنه الرئيس ترامب في العشرين من أكتوبر الجاري من عزمه على انسحاب بلاده من معاهدة عام 1987 الخاصة بالصواريخ النووية متوسطة المدى، وإرساله مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، لزيارة موسكو بعد ذلك بأيام قليلة لبحث هذه المسألة، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من النقاط، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: انه في الوقت الذي لا يمكن فيه إغفال التوقيت الذي اختاره ترامب للإعلان عن عزمه الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى، ونقصد بذلك انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في السادس من نوفمبر القادم، ثم الرغبة في استثمار هذا الإعلان في إطار الدعاية الانتخابية للحزب الجمهوري، وله بالطبع في النهاية، فإن هذا الموقف يدخل أيضا في نطاق مناخ التصعيد من جانب إدارة ترامب ضد روسيا الاتحادية، على مدى الفترة الأخيرة، وذلك في تناقض واضح وتام مع ما أبداه ترامب نفسه من إعجاب بالرئيس الروسي بوتين، ومن ميل إلى دعم العلاقات مع موسكو، وذلك خلال حملته لانتخابات الرئاسة في عام 2016.

وفي حين يتماهى موقف ترامب مع مواقف اليمين الأمريكي المسيطر على الكونجرس، بحكم الأغلبية الجمهورية في كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكيين، وهو ما قد يتغير بشكل ما في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأسبوع القادم، وهو ما يقلق بالفعل ترامب وإدارته، بحكم ما سيترتب، أو يمكن أن يترتب عليه من نتائج، فإن موقف ترامب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، يأتي أيضا في إطار ما أعلنه من قبل من رغبة لاستعادة التفوق النووي الأمريكي بشكل أكبر، وقراره بإنشاء سلاح الفضاء بالجيش الأمريكي، وميله إلى السير على خطى ريجان الذي عمد إلى إرهاق الاتحاد السوفييتي السابق من خلال تصعيد سباق التسلح معه، وكانت مبادرة حرب النجوم التي أعلنها ريجان في ثمانينات القرن الماضي إحدى أهم أدواته في هذا المجال.

وإذا كان ترامب ليس ريجان، من وجوه عديدة، وإذا كانت ظروف وأوضاع الثمانينات من القرن الماضي تختلف، أمريكيا ودوليا أيضا، عن الظروف الراهنة، فإن السؤال هو هل سينفذ ترامب تهديده بالانسحاب من المعاهدة المشار إليها، أم أن الأمر سيهدأ، وقد ينتهي حسب نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، خاصة إذا احتفظ الحزب الجمهوري بالأغلبية في مجلسي الكونجرس، أما إذا خسر الحزب الجمهوري، وبالتالي ترامب، هذه الأغلبية، فإنه من المرجح السير للانسحاب من المعاهدة وتحويل المسألة إلى نقطة خلاف ونزاع آخر مع موسكو لتوظيفها في الداخل الأمريكي خلال الفترة القادمة، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة.

* ثانيا: إن الموقف الأمريكي، المعلن بالطبع، بشأن اعتزام الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، استند إلى سببين رئيسيين، أولهما اتهام واشنطن لموسكو بأنها تنتهك تلك المعاهدة، وأنها أنتجت وتنتج صواريخ نووية متوسطة المدى ومتطورة، وأن واشنطن اشتكت من هذا الأمر من قبل، ومن المرجح أن واشنطن قد انزعجت من مجموعة الأسلحة الجديدة التي أعلنت عنها موسكو في الأشهر الأخيرة، ومنها صواريخ نووية قصيرة ومتوسطة المدى ومتطورة بشكل كبير، ثم تريد إدارة ترامب الانطلاق في إنتاج تلك الشريحة من الصواريخ النووية بشكل أكبر، ولكن مع إلقاء المسؤولية على عاتق موسكو وإظهارها بمظهر غير الملتزمة بالالتزامات التي وقعتها مع واشنطن.

وبغض النظر عن أن هذا الموقف يثير أزمة أخرى مع موسكو، وميل إلى ممارسة مزيد من الضغوط ضدها، فإن مما له دلالة أن ترامب أدخل الصين وكوريا الشمالية وإيران في المسألة، وذلك عبر الإشارة إلى أن معاهدة الصواريخ المتوسطة هي معاهدة ثنائية، أمريكية - سوفييتية (روسية)، ثم فإنها لا تلزم الصين والأطراف الأخرى التي تنتج مثل تلك الصواريخ، أو القادرة على إنتاجها، وأن هناك حاجة إلى منع تلك الدول من إنتاجتلك الصواريخ، أو على الأقل إتاحة الفرصة لأمريكا للعودة إلى إنتاج ونشر تلك الصواريخ كنوع من الردع، خاصة ضد الصين.

أما السبب الثاني، الذي استندت إليه واشنطن في تبرير عزمها على الانسحاب، فإنه يتمثل فيما أعلنه جون بولتون مستشار ترامب للأمن القومي خلال زيارته موسكو قبل أيام، وبعد محادثاته مع بوتين، من أن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى «عفى عليها الزمن»، وهذا التعبير، الذي استخدمه ترامب من قبل في وصفه لحلف الأطلنطي، هو تعبير فضفاض وغير محدد ويهدف إلى تصدير صورة معينة لخدمة الموقف الأمريكي، فالمعاهدات الدولية ليست مسألة «موضة» تتغير باستمرار، ولا يتم إلغاؤها لمجرد مرور بعض السنوات أو العقود على إبرامها، وعادة ما يتم استخدام هذا التبرير لإخفاء الأسباب الحقيقية للموقف وللأهداف المراد الوصول إليها.

فالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، ثنائية كانت أو متعددة الأطراف أو جماعية، لا يتم إلغاؤها أو الانسحاب منها إلا إذا كانت هناك مصالح كبيرة تريد الدولة المنسحبة تحقيقها بانسحابها، أو عندما تتفق الأطراف المعنية على إلغاء الاتفاقية أو تعديلها بالطرق المحددة لذلك، وبالطبع تزداد مخاطر الانسحاب الأحادي عندما تكون المعاهدات والاتفاقيات خاصة بمجالات حيوية لأمن ومصالح الدول الأعضاء، وهو ما ينطبق بالقطع على معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، ولذا أثار موقف الإدارة الأمريكية موجة من الانزعاج في العالم، وخاصة في موسكو وأوروبا.

* ثالثا: إنه في الوقت الذي رفضت فيه موسكو اتهام واشنطن لها بخرق وانتهاك المعاهدة، وأكدت في الوقت ذاته على خطورة الموقف الأمريكي، في حالة انسحاب واشنطن عمليا من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، فإنها - أي موسكو - أقرت بوجود نقاط ضعف في المعاهدة، وأبدت استعدادًا للتفاوض حول تعديلها وأنه من الخطر أن تنسحب أمريكا ولا يكون هناك بديل يحل محل تلك المعاهدة، وبذلك ألقت موسكو الكرة في ملعب واشنطن، وحذرت في الوقت ذاته بأنها ستتعامل مع الموقف على النحو الذي يحفظ مصالحها ويحافظ على التوازن العسكري مع واشنطن، وهو أمر يمكن أن يفتح المجال لسباق تسلح جديد بين روسيا وأمريكا، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر.

من جانب آخر فإن الدول الأوروبية، شعرت بالخطر من هذه النية الأمريكية، والتي ستضع على الأرجح حدا لما تتمتع به أوروبا الآن من أمن نسبي، في ظل عدم نشر صواريخ نووية متوسطة المدى بها، لا من جانب روسيا ولا من جانب أمريكا، ولذا دعت «فيدريكا موجريني» ممثلة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي كل من أمريكا وروسيا إلى «الحفاظ على المعاهدة، وإلى مواصلة الحوار البنّاء بينهما للتأكد من تطبيق المعاهدة بشكل تام والتحقق من ذلك».

ولعل ما يزيد من مخاوف الدول الأوروبية، أنها أصبحت أكثر تشككا في الالتزام الأمريكي بالحفاظ على الأمن الأوروبي، وذلك بعد حديث ترامب الفظ حيالها في قمة الناتو الأخيرة ومطالبته لها بدفع ثمن حماية أمنها، وبزيادة مساهماتها في ميزانية حلف الأطلنطي.

والمرجح أن الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا ستسعى إلى دعم دفاعاتها المشتركة والحد من فرص تحولها إلى رهينة في الصراع الأمريكي - الروسي، ثم فإنها ستتمسك باستمرار الالتزام الأمريكي - والروسي بعدم نشر صواريخ نووية قصيرة أو متوسطة المدى في أوروبا.

أما بالنسبة للمعاهدة المشار إليها فإن ترامب يريد أن يقيد قدرات الصين في مجال إنتاج ونشر الصواريخ النووية متوسطة المدى، ولكن ذلك سيتطلب الدخول في مفاوضات ثلاثية روسية - أمريكية - صينية للتوصل إلى صيغة جديدة، أو إلى معاهدة جديدة في هذا الشأن، والمؤكد أن المناخ الحالي للعلاقات بين واشنطن وكل من موسكو وبكين لا يساعد على ذلك، فهل يتحول إعلان ترامب النية في الانسحاب إلى مجرد إعلان انتخابي، خاصة إذا حقق الحزب الجمهوري نتائج مرضية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس؟ أم أن الأمر ممارسة جديدة من ممارسات الرئيس الأمريكي في التعامل مع المعاهدات التي وقعتها بلاده؟ على أي حال فإن الأمر هذه المرة ينطوي على مخاطر جدية.