أفكار وآراء

ضباط الاستخبارات الأمريكيين والحديث في السياسة

17 أكتوبر 2018
17 أكتوبر 2018

جون مكلوفلِن- واشنطن بوست - ترجمة قاسم مكي -

كثيرا ما يسألني الناس لماذا يعلق هذا العدد الكبير من ضباط الاستخبارات السابقين هذه الأيام على مسائل يبدو أنها بالضرورة سياسية. وعادة ما تكون صيغة السؤال على النحو التالي: ألا يجب عليكم البقاء على الحياد وفوق الصراعات؟ أليس ذلك جزءا من تقاليد ممتهني الاستخبارات السابقين منهم والذين لا يزالون في الخدمة؟ الإجابة السريعة على هذا السؤال هي نعم ذلك هو التقليد السائد لدينا. فمن المؤكد أن الحياد ظل ديدننا الأخلاقي في القضايا السياسية. وهو ما كان يمنحنا صِدقِية في جمع وتسليم معلومات قد لا يرغب الرؤساء في سماعها. فالحياد مضاد للخوض في السياسة الداخلية بانتقاد الرئيس علنا حول أعمال أو تصرفات شخصية. ومن المؤكد أن أولئك الذين اختاروا الحديث (في السياسة) من بيننا ليسوا مرتاحين من قيامهم بذلك. يدفع مثل هذا الرد الناس إلى طرح سؤال آخر هو: هل تصرفنا هذا (أي الكلام في السياسة) يعني أن ضباط الاستخبارات لن تحمل أقوالهم على محمل الجد في المستقبل حين يزعمون أنهم مهنيون تماما ولا شأن لهم بالسياسة؟ هل نحن نثير شكوكا حول قدرتنا على تقديم تقييمات استخباراتية متوازنة وخالية من الاختلاق (التلفيق) السياسي؟ علينا التعامل مع هذه الأسئلة بجدية. فإذا فقدنا ثقة أولئك الذين يتلقُّون معلوماتنا وتحليلاتنا سينظر الناس إلى مجتمع الاستخبارات كمجرد لاعب آخر له حساباته (الخاصة به) في لعبة السياسة في واشنطن وسيتضرر أمننا القومي. إذن ما الذي أخرجنا من ملاذنا الاستخباري المريح (إلى عواصف التعليقات السياسية؟) كيف يمكننا ضمان تصديق الناس لادعاءاتنا بالموضوعية والحياد في المستقبل؟ دعونا نتعامل مع هذين السؤالين واحدا وراء الآخر. أولا (حديثنا في السياسة) رد فعل على السياق غير الطبيعي الحالي وغير المسبوق أيضا. إنه سياق يتعالى على السياسة الحزبية التقليدية (فمعظمنا خدم حكومات قادها كلا الحزبين). وبالنسبة للعديدين منا سيكون التزامنا الصمت تجاه ما نراه في بلدنا شبيها بعدم تنبيه حكومتنا إلى مهدد خارجي. فالإخفاق في التحذير أكبر كبائر الذنوب في عالم الاستخبارات. وأنا اشعر بالذنب على نحو مماثل في عالم المواطنة. قال لي زميل يعمل في مجال آخر مؤخرا «لم تعد القواعد العادية (التي تحكم مهنتك) تنطبق عليك وعلى آخرين لأننا كلنا اليوم في عالم انقلب سافله عاليه». إنه عالم لم تعد تحكمه معظم القواعد المعهودة للخطاب المدني. تأملوا حال ذلك الموظف المجهول في إدارة ترامب الذي أطلق لقلمه العنان حين كتب على صحيفة نيويورك تايمز عن التصرفات الخطرة للرئيس. بالطبع نحن كلنا نحب أن نكون في عالم يقف على قدميه حيث لا يخطر في البال أن يدعو رئيس (من الرؤساء الأمريكيين) إلى سجن خصم في الانتخابات وأن يهاجم وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية ويصف الصحافة الحرة بأنها «عدو الشعب» ويسيء للحلفاء. والأهم من ذلك أن يرفض التصدي لهجوم أجنبي سري وموَثَّق جيدا على الانتخابات الأمريكية ويضعف مساعي الآخرين للرد على هذا الهجوم ويشجع روسيا على الاستمرار في ذلك (التدخل في الانتخابات الأمريكية). وعلى الرغم من أن كل الساسة ينفقون وقتا في الحوارات الجانبية مع الصحفيين كم سيكون عظيما لو أن الشكوك لم تحط تلقائيا بالصدق العفوي للرئيس الأمريكي . لقد تشكلنا كلنا بواسطة مسارات مهنية تتولى تقييم بلدان لا يوجد بها أو تهدد فيها حرية الكلام والمؤسسات الديمقراطية وحكم القانون مثل روسيا والصين. كما شهدنا أيضا كيف أن أنظمة ديمقراطية هشة يمكن أن تتآكل على نحو غير مفهوم تقريبا كما في بعض بلدان أوروبا الوسطى. لذلك تدربت حواسنا على التقاط علامات الخطر التقليدية مثل الحملات التي تستهدف المؤسسات وتحييد الخصوم وتطويع الأجهزة التشريعية المطيعة وتخدير الناس بتكرار الأكاذيب. كل هذه السمات مشاهدة الآن في الولايات المتحدة بدرجات مختلفة من الوضوح. قد يقول آخرون أن ديمقراطيتنا لا يمكنها أن تتآكل بتلك الطريقة. لكننا نعلم أننا سمعنا مثل هذا القول يتردد من قبل في بلد آخر. والرهان أكبر من أن يجعلنا نشعر بالرضي في الولايات المتحدة.

ثانيا، كيف يمكننا نحن -موظفي الاستخبارات- الخروج من هذا الوضع ونحن نحتفظ بالثقة في موضوعيتنا (موضوعية معلوماتنا الاستخبارية وعدم تأثرها بالعامل السياسي.) فأناس عديدون سيستنتجون أننا ببساطة لا يمكن أن نكون موضوعيين. لكن علينا التمسك بالأمل في أن الناس سيتفهمون سبب رفضنا للصمت. فنحن لا نستطيع أن نحارب في صمت على نحو ما كنا نفعل عند محاربتنا للمهددات الخارجية - وراء البحار وبعيدا عن أعين الشعب. بالطبع سيرفض هذه الحجة أولئك الذين لا يرون مهددا داخليا (مثلما نراه). وليس هنالك ما يمكن أن نفعله بشأنهم. لكن علينا في الأثناء أن نحرص، مثلما نفعل في تقييماتنا للمعلومات الاستخبارية الخارجية، على قصر تعليقاتنا على ما يمكن أن يكون معززا بالحقائق إلى حد معقول في نظر معظم الأمريكيين. أي على ما يمكننا كلنا أن نراه ونسمعه ونوثقه على نحو مؤكد. وإذا توقفت وحين تتوقف الهجمات التي تتعرض لها مؤسساتنا سنتوقع أن نعود في معظمنا وبسرعة إلى ملاذنا التقليدي وأن نبتعد عن السياسة الداخلية ونوجه اهتمامنا أساسا ( ونحن تنفس الصعداء) إلى ما وراء سواحلنا.

* الكاتب يحاضر بمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز. عمل نائبا لمدير وكالة الاستخبارات المركزية في الفترة 2000 - 2004 ومديرا بالوكالة في عام 2004.