أفكار وآراء

الصين وإفريقيا بعد المؤتمر التاسع عشر !

05 سبتمبر 2018
05 سبتمبر 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

يتعين تقييم منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذى انعقد في العاصمة الصينية بكين، وانتهت أعماله منذ يومين، من منظور جديد. من المعلوم بالطبع ان انفتاح الصين على إفريقيا مستمر بقوة منذ نحو ثلاثة عقود، وان الصين ليست القوة الدولية الكبيرة الوحيدة التي تسعى للتواجد القوي في إفريقيا، وإلى تكثيف التبادل التجاري والاستثمار معها وتقديم التمويل والدعم الفني والمساعادت لها. من المعلوم أيضا أن الاستقطاب السياسي والتجاري العالمي الراهن، والذي تعد الحرب التجارية بين الصين وامريكا أبرز مظاهره، يؤثر بشدة على علاقات الصين – وغير الصين - بإفريقيا بل وعلاقات كل الدول والكتل الاقليمية بكل الدول والكتل تقريبا.

لهذا اتصور ان نقطة الانطلاق الاهم في التحليل يجب ان تكون المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعى الصيني، والذي انعقد في اكتوبر الماضى، وأسفر عن إعلان توجهات صينية مختلفة كما أفصح عن تطلع الصين لدور جديد على الصعيد العالمى.. يختلف كثيرا عما سبق، وينسجم مع ما كان متوقعا أن تصل اليه الصين وسياساتها الخارجية عند بلوغ تطورها الاقتصادى حدا معينا. ولأن دوائر متعددة كانت تتوقع تلك اللحظة وتحدث بعضها عن ان الوجه الامبريالى للصين سيتبدى بوضوح عندما تصل قوتها الذاتية الاقتصادية والعسكرية والاجتماعة إلى درجة محددة، هى ما هى عليه الان، فقد حرص الرئيس الصيني طوال السنتين الاخيرتين بشكل خاص على ان يؤكد ان الصين مهما كبرت ستظل دولة سلام ولن تعادي احدا او تعتدي على حقوق او موارد أحد وكرر الرئيس هذا المعنى بأوضح ما يكون في المؤتمر الـ 19.

ومن المفيد في البداية ان نقدم إلى القراء مقتطفات سريعة ذات صلة بالاقتصاد من تقرير الرئيس الصيني إلى المؤتمر التاسع عشر للحزب حيث جاء فيه: (الانفتاح يجلب التقدم، والانغلاق يؤدي حتما إلى التخلف. لن تغلق الصين أبواب انفتاحها على العالم الخارجي، بل ستوسّع نطاق انفتاحها أكثر فأكثر. علينا تشكيل نمط انفتاح يتميز بالارتباط الداخلي والخارجي برا وبحرا والتآزر الثنائي الاتجاه شرقا وغربا. دفع عجلة بناء الدولة القوية تجاريا. تطبيق سياسات عالية المستوى لتحرير وتسهيل التجارة والاستثمار، والتنفيذ الشامل لنظام إدارة المعاملة الوطنية قبل السماح بالنفاذ والقائمة السلبية. تخفيف السيطرة بشكل ملموس على السماح بالنفاذ إلى السوق. توسيع انفتاح قطاع الخدمات على الخارج. حماية الحقوق والمصالح المشروعة لرجال الأعمال الأجانب في مجال الاستثمار. ويتعين علينا تحسين ترتيب الانفتاح الإقليمي على العالم الخارجي. منح استقلالية أكبر في الإصلاح للمناطق التجريبية للتجارة الحرة. استكشاف إمكانية بناء موانئ تجارة حرة؛ وابتكار نمط الاستثمار بالخارج، وتشكيل شبكة موجهة للعالم تغطي التجارة والاستثمار وتدبير الأموال والإنتاج والخدمات. وستواصل الصين التزامها بأن كل الدول سواء كانت كبيرة أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة، يجب أن تكون على قدم المساواة. وستواصل الصين أداء دورها كدولة كبيرة مسؤولة وتشارك بحماسة في عملية إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمية، وتقدم حكمتها وقوتها باستمرار.)

من الفقرات السابقة التي أتمنى أن تكون قد تمت قراءتها بدقة في الأوساط العربية والإفريقية يتضح انه على الرغم من الاهتمام العميق للصين بدول الجوار والدوائر المحيطة والدول المنخرطة في مبادرة الحزام والطريق، فان الاولوية الصينية في العهد المقبل هى وفق قراءة ما بين السطور “الانفتاح” ببراعة على الدول الغربية!، فالمنتجات الجديدة المتطورة للصين تحتاج اسواقا لا تتوفر بشكل كاف في إفريقيا اوالعالم الثالث عموما (أقمار صناعية - منتجات منبثقة عن تطبيقات للذكاء الاصطناعى - غواصات لكشف أعماق المحيطات – تكنولوجيات رقمية متطورة الخ)، كما ان التواجد القوي في الدول الغربية يمكن ان يشكل مصدا للتيارات التي تدعو إلى الانغلاق القومى والتشدد العرقى ومناهضة العولمة التجارية والاستثمارية والمالية،و هى التي افادت الصين بشدة في الزمن الممتد من 1978 حتى الآن. اشير ايضا إلى ان الصين حين تعلن انها ستولي عناية بانفتاح قطاع الخدمات فذلك يعني في المقام الاول ايضا انها ستطبق ذلك مع دول العالم المتقدم اولا او اساسا لتختبر قدرتها على المنافسة مع المؤسسات المالية والخدمية الغربية والامريكية المهيمنة، وتقدم او تحاول ان تقدم نموذجا جديدا في تلك النوعية من الاعمال، هذا إلى جانب ان الخدمات اصبحت تشكل الجزء الاعظم من النواتج المحلية في الدول الكبرى كما هو معروف.

أنوه كذلك إلى إن عناية الصين بإفريقيا تاتى في جانب كبير منها بالقطع بحثا عن الموارد والمواد الخام او فرص اقامة مشاريع بنية اساسية تتعطش إفريقيا اليها او حتى اقامة صناعات خفيفة تحقق نوعا من المنفعة المتبادلة، ولكن ايضا لمنع تمركز القوى الاخرى المناوئة لها في تلك القارة على حساب المصالح الصينية، بل ومنع تمركز تلك القوى في نقاط او مواقع حساسة - منفردة - في شرق إفريقيا بالذات خشية ان يكون ذلك منطلقا لتعريض مصالح الصين للخطر، ولذلك لم تكن مصادفة ان تقيم الصين اول قاعدة عسكرية لها خارج بلادها في جيبوتى، ولم تكن مصادفة ايضا ان تركز الصحافة الغربية في البلاد التي تتنافس مع الصين بعنف في إفريقيا على إثارة مخاوف في القارة من التمدد العسكري للصين فيها وبيان كيف تتطور صفقات السلاح بين الصين والدول المختلفة فيها وبالذات دول وسط وشرق إفريقيا، وقد نشرت وسائل اعلام غربية تقارير موسعة مؤخرا عن معهد استكوهولم لابحاث السلام، تفيد بان صادرات الصين من السلاح إلى إفريقيا تغيرت إلى نصيب من الاجمالى من 8.6 في المائة إلى 17 في المائة، في ست سنوات مقارنة، بست سنوات سابقة، على الرغم من انخفاض إجمالي واردات الأسلحة بنسبة 22 في المئة خلال الفترة نفسها.

يجب التذكر بان موجات الهجوم الاولى من الصحافة الغربية على الصين كانت ذات طبيعة اقتصادية بحت في السنوات الماضية، وقد ركزت على ان الصين شانها شان دول الغرب الاستعمارية السابقة تقدم تمويلات مشروطة، وتقوم بتسييس استثمارتها هناك، وتزيد من عجوزات الموازين التجارية للدول التي تتعامل معها لصالحها باضطراد، وتعمق مديونيات الدول بطرق متباينة بحيث يصعب الفكاك من الارتباط بالصين لاحقا وهكذا. ولما لم تؤت تلك الكتابات اكلها بدليل عدم وجود تيارات سياسية واضحة في الدول الإفريقية التي تنخرط في علاقات تبادل قوية مع الصين تكشف او تناهض تلك الممارسات – لو صح انها موجودة - تجىء الان الموجة الثانية من الهجوم على الصين ودورها في إفريقيا وامريكا اللاتينية وتتكئ على خطر الاسلحة الصينية في القارة وكيف انها يمكن ان تلهب الصراعت الداخلية والنزاعات بين بعض الدول مع ان الصين لا تزال على حرصها على عدم التورط في اي نزاع مسلح وتسعى دائما لحل المشكلات بأساليب سياسية انطلاقا من مبادئ الامم المتحدة والقانون الدولى، ولم نر في اي محفل دولي اى مناقشة جادة لخروقات صينية لتلك المبادىء. في كل الحالات تقول الصين انها تعمل بقوة في إفريقيا وغيرها من الدول التي لها ظروف مشابهة على مكافحة الإرهاب ومكافحة القرصنة ورعاية مبادرات الأمن الاقليمي والدولي التي تعزز السلم الدولي. الصين هى اكبر مستثمر خارجي في إفريقيا - نحو 300 مليار دولار - ويبلغ حجم تبادلها التجاري مع القارة السمراء قرابة 180 مليار دولار سنويا، وتخطو الصين حثيثا باتجاه ان تكون اكبر مقدم للمساعدات للدول الإفريقية، ومع التطور الهائل في مؤسسات التمويل التي اقامتها الصين مؤخرا سواء وطنيا ام عالميا من خلال تجمع “بريكس” او من خلال صندوق طريق الحرير اوعالميا مثل بنك الاستثمار في البنية الأساسية، ستصبح الصين اللاعب الاول تمويليا في القارة - وفى مناطق اخرى - والبديل العصرى لدول كثيرة بالفعل عن صندوق النقد والبنك الدوليين..هذا رغم ان التوجهات المالية والتمويلية الثنائية او المتعددة الاطراف لم تتضح بعد للبازغ الجديد.

ورغم كل ذلك أود فقط أن أعيد القول إن على الدول الإفريقية أن تتنبه إلى احتمال أن يكون المجهود الصيني الرئيسي في العقدين المقبلين باتجاه دول منظمة دول التعاون الاقتصادى والتنمية- نادى الاغنياء-، اذ لا يمكن ان تستهدف الصين أن تكون الاقتصاد رقم واحد في العام 2035 دون أن تكون لها قوة تأثير مجسدة في هذا النادى بنحو خاص.