الملف السياسي

الحرب التجارية بين العملاقين

13 أغسطس 2018
13 أغسطس 2018

عوض بن سعيد باقوير -

صحفــي ومحـــلل ســـياسي -

الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين لها انعكاساتها المؤثرة على الاقتصاد العالمي وحركة النمو وحدوث حركة ركود مزمنة، وهو الأمر الذي تحذر منه المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى الثقل الاقتصادي الكبير للدولتين.

فالولايات المتحدة لا تزال تتربع على الاقتصاد العالمي والصين تأتي ثانيا بعد إزاحتها اليابان التي أصبحت ثالثا، وهناك تكهنات ودراسات متعمقة بأن الصين قد تزيح الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة القادمة إذا استمر نمو الاقتصاد الصيني بنفس الوتيرة عند أكثر من 7 في المائة سنويا، حيث سجل الاقتصاد الصيني أكبر نمو بين الاقتصاديات خلال العقود الأخيرة وصل في بعض السنوات إلى 13 في المائة، وهو الأمر الذي أقلق واشنطن وشركاءها في دول الاتحاد الأوروبي.

كما أن الصين تمتلك أكبر احتياطيات من النقد الأجنبي في العالم، ولديها استثمارات في كل قارات العالم، وتعتمد على التصدير بشكل كبير؛ نظرا لوفرة الإنتاج في المصانع الصينية وعوامل الجذب الأخرى من وجود العمالة المدربة، وهي رخيصة قياسا بالعمالة في الولايات المتحدة وأوروبا ذات التكلفة العالية؛ مما جعل العشرات من الشركات الغربية والأمريكية تنقل مصانعها إلى المدن الصينية لتحقيق الأرباح.

من يخسر الرهان

من أطلق العنان للحرب التجارية هو الرئيس الأمريكي ترامب من خلال زيادة الرسوم على المنتجات الأوروبية خاصة الصلب والألمنيوم ومنتجات أخرى هدد بإضافتها كالرسوم على السيارات، وكانت ردود فعل دول الاتحاد الأوروبي منسجمة من خلال التلويح بفرض رسوم مماثلة على وارداته من السلع الأمريكية؛ مما أوجد تلك الحرب التجارية التي اتسع مداها وخطورتها عندما شملت العملاق الصيني.

والحرب التجارية بين بكين وواشنطن ستكون أكثر قسوة كما أشرنا لأن الطرفين يرتبطان بعلاقات تجارية كبيرة واستثمارات صينية هائلة خاصة في غرب الولايات المتحدة على المحيط الهادئ؛ ومن هنا فإن الخسارة سوف تكون مزدوجة للطرفين، وإن كانت الصين لديها امتدادات كبيرة الآن في إفريقيا الواعدة علاوة على قيامها بتنفيذ مشروع «الحزام والطريق»؛ لإعادة إحياء طريق الحرير القديم بين الصين وأوروبا، وذلك عبر مشروعات طرق وموانئ في عدد من دول شرق ووسط آسيا والشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا، علاوة على أن الصين لديها سيولة كبيرة تمكنها من تعويض بعض خسائرها من فرض الرسوم الأمريكية، ومن هنا فقد جاء الرد الصيني حاسما تجاه قرار واشنطن، وهو فرض نفس الرسوم على بعض المنتجات الأمريكية التي تصدر إلى الصين؛ ومن هنا فإن تصلب الموقفين دفع نحو الحرب التجارية أو ملامحها على الأقل بين العملاقين الصيني والأمريكي، وكما تمت الإشارة فإنه ليس هناك فائز في تلك الحرب بل الجميع يتأثر وإن كان بدرجات متفاوتة اعتمادا على التأثيرات الداخلية والخارجية.

دور منظمة التجارة العالمية

منظمة التجارة العالمية لها دور كبير في فض النزاعات والخلافات التجارية بين الدول الأعضاء، وطالما أن واشنطن وبكين عضوان في هذه المنظمة فلا بد من الاحتكام إلى القوانين والقواعد التي تحكم مسألة رفع الرسوم، والمعايير التي من خلالها يحق لأي دولة رفع تلك الرسوم، وهل من حق الدولة المتضررة من تلك الرسوم أن ترفع الرسوم بنفس النسبة؟ هذه جملة من التساؤلات التي لا بد لمنظمة التجارة العالمية أن توضحها من خلال بيان توضيحي.

إن استمرار الحرب التجارية بين الولايات المتحدة من جانب وبين دول الاتحاد الأوروبي والصين من جانب آخر قد أوجد تعقيدات كبيرة في مجال التجارة العالمية، وهناك خشية من أقاليم أخرى في العالم أن تشملها الرسوم الأمريكية، وقد تكون منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي المنطقة المرشحة على ضوء مؤشرات محددة، وقد تنتهي تلك التكهنات إذا فشلت تلك التوجهات الأمريكية ووجدت واشنطن نفسها غير قادرة علي مجابهة التنين الصيني. عندها فقط قد نرى حوارا تجاريا شاملا ومتوازنا يلبي مصالح الأطراف الداخلة في هذا الصراع التجاري،

وعلى ضوء ذلك وفي حال اقتناع واشنطن بالحوار لحل أي إشكال حول الرسوم المفروضة، هنا يأتي الدور المحوري لمنظمة التجارة العالمية للتدخل وبيان الممكن وغير الممكن في مسألة فرض الرسوم، وعندها تتوصل الأطراف إلى آليات موضوعية تعيد التوازن لحركة التجارة الدولية التي تشهد اضطرابا تجاريا وسياسيا؛ بسبب المشكلات في مضيق باب المندب، وبسبب الخلافات بين طهران وواشنطن؛ بسبب تداعيات انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني وتداعيات ذلك علي مسألة إعادة فرض العقوبات على إيران في حين رفضت الدول الغربية التحركات الأمريكية على أساس أنها توتر الوضع في المنطقة وتخلق صراعات جديدة لا تحتاج لها المنطقة في ظل وجود حرب معقدة في اليمن التي دخلت عامها الرابع؛ حيث خسر فيها الشعب اليمني الكثير من مقدراته وأبنائه؛ وبالتالي هي حرب يخسر فيها الجميع.

واشنطن في مأزق

بالمعنى الموضوعي فإن إدارة الرئيس ترامب وضعت واشنطن في مأزق حقيقي عندما دخلت في مناكفة تجارية مع أهم كتلتين اقتصاديتين في العالم، وهما دول الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة بعد انسحاب بريطانيا من عضوية الاتحاد، وهناك الصين ثاني اقتصاد في العالم، ومن خلال المنطق والظروف الاقتصادية المحيطة بواشنطن ونفقات الدفاع الأمريكية التي رصدت للدفاع والأمن القومي التي تقترب من 700 مليار دولار فإن الجانب الأوروبي والصيني في موقف أقوى، ومن مصلحة واشنطن اللجوء إما للتحكيم التجاري أو للحوار المباشر.

إن استمرار الحرب التجارية خاصة بين الصين والولايات المتحدة سوف تكون تكلفته عالية وسوف يكون له تأثيراته المباشرة على البلدين وقد يخلق ركودا أو انكماشا اقتصاديا للبلدين هما في غنى عنه، والمعروف أن التبادل التجاري بين بكين وواشنطن يقدر بمئات المليارات علاوة على وجود مئات الشركات الأمريكية في السوق الصيني تجني أرباحا كبيرا نتيجة التكلفة المنخفضة للعمالة والمواد المحلية الرخيصة. على الجانب الآخر فإن الصين تصدر منتجات هائلة للسوق الأمريكي الأكثر قدرة على الاستهلاك في العالم بسبب القدرة الشرائية.

وهناك عشرات الآلاف من الطلبة الصينيين في الجامعات الأمريكية، وهذا مورد مهم للجامعات في مختلف المدن الأمريكية، وأيضا جزء من التنوع الثقافي والحضاري الذي تحرص عليه تلك الجامعات، ومن هنا فالمصالح والمنافع بين العملاقين الأمريكي والصيني كبيرة، ويبدو أن مسار تلك الحرب التجارية قد لاتصل إلى ذروتها إلا إذا أصر الرئيس ترامب كعادته على اتخاذ القرارات غير المتوقعة والمثيرة التي تربك المشهد الاقتصادي هذه المرة كما أربك المشهد السياسي عدة مرات من خلال انسحاباته المتكررة من اتفاقيات وقعت عليها الولايات المتحدة، ومن أهمها الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية الاحتباس الحراري الموقعة في باريس من معظم دول العالم وانسحابه من منظمة اليونسكو تعاطفا مع الكيان الإسرائيلي، وقد يشطح به الخيال ويتهم منظمة التجارة العالمية بالانحياز لأوروبا والصين وينسحب منها لتكتمل منظومة الانسحابات لأول مرة في تاريخ الرئاسات الأمريكية.

إن الحرب التجارية تتأثر بها مصالح الشعوب قبل الدول، ومن هنا فإن هناك فرصة أمام واشنطن لمراجعة قراراتها في هذا المجال وإذا كانت واشنطن حريصة على مصالحها، فإن الدول الأخرى تريد الحفاظ على مصالحها أيضا فشعار أمريكا أولا الذي رفعه الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية لا يعني أن تحصل على كل المصالح والمنافع على حساب مصالح الدول والشعوب الأخرى، فهذا منطق غير ممكن، ومن هنا جاءت ردة الفعل الصينية الحاسمة بأنه لا تفريط في مصالح الصين ولا بوصة من أراضيها إشارة إلى الأراضي والجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي التي تتعاطف فيها واشنطن مع طوكيو وسول.

وفي المحصلة النهائية لا بد من الجلوس على طاولة الحوار وإدخال منظمة التجارة العالمية لحل أي إشكال بين الأطراف علي اعتبار أن هذه المنظمة هي المرجعية لتسوية النزاعات التجارية بين الدول؛ حتى يبتعد العالم عن صراع تجاري تكون له نتائجه الخطيرة على الأمن والاستقرار في العالم.