tonis
tonis
أعمدة

تواصل :حياة بختم الصور !!

17 يوليو 2018
17 يوليو 2018

تونس المحروقية -

مشهد أول :

في الخامسة والعشرين من عمره ذهب مع أصدقائه لإحدى الدول الأوروبية للسياحة، في تلك الرحلة يوثق أغلب ما يصادفه في كل دقيقة من سفره بصور ومقاطع فيديو يبثها مباشرة في (سناب شات) لمتابعين لايتجاوز عددهم 30 شخصا من عائلته وزملائه وأصدقائه، وينهي كل مقطع فيديو بالقول :” ما عندكم تدفعوا للتذاكر؟ تابعوني وستشعرون أنكم فعليا معي في هذه الدولة الجميلة”.

مشهد ثانٍ

في حفل زفاف صديقتها المقربة، تلتقط صور “السيلفي” بمعدل يزيد عن عشر صور في الدقيقة الواحدة، في مختلف زوايا قاعة الحفل ، لاتجد في نفسها رغبة في التواصل مع صديقاتها الموجودات في الحفل إلا بمقدار ما تحتاجه من إخبارهن أنها تريد التقاط “صور سيلفي” معهن ، ثم تضع صورها مباشرة في “ انستجرام “ وتكتب : كانت ليلة رائعة برفقة صديقاتي المقربات !

مشهد ثالث

في مطعم يطلبن وجباتهن المفضلة ثم يصورن الأطباق من مختلف الزوايا وتتدفق صور تلك الوجبات في حساباتهن في وسائل التواصل الاجتماعي، يمضي الوقت ، ويشعرن أنهن تأخرن عن المنزل، يتوادعن وهن لم يتحدثن مع بعضهن أكثر من دقائق ، يواصلن في طريقهن للمنزل حواراتهن عبر حساباتهن في وسائل التواصل الاجتماعي ويرسلن رموز القلوب والورود لبعضهن هناك وتكتب إحداهن :”كنا نحتاج لهذه الطلعة من زمان ، اللقاء المباشر فعلا له طعم مختلف”.

مشهد رابع

مدعوون للغداء في تجمع عائلي في مزرعة جدهم ، يحمل كل منهم شواحن إضافية لإبقاء هواتفهم يقظة طوال الوقت، كل ما يفعلونه هو التصوير في مختلف أرجاء المزرعة مع الخيل مرة ومع “الساقية” المتدفقة من حوض ماء كبير ومع الحيوانات المرعوبة من تزاحم كاميرات هواتفهم وكأنهم أجانب أتوا للتعرف على ثقافة جديدة يوثقونها بصور، لايجدون وقتا للحديث مع من دعاهم لتناول وجبة الغداء ، ينتهي التجمع فيجمعون حصيلتهم من الصور ويضعونها في حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي ويكتبون :” كان يوما رائعا في ضيافة جدي ، لا تنسوا أن تمنحوا عائلاتكم جزءًا من وقتكم حتى وإن ازدحمتم بمشاغل الحياة”.

إن أحد أهم أهداف وسائل التواصل الاجتماعي هو مشاركة اللحظات والأفكار مع الآخرين، لتقريب المسافات بين الأشخاص الذين قد لايستطيعون تحقيق التقارب الواقعي ،فيستعيضون عنها بمشاركة الصور والكلمات للوصول لشعور يشبه القرب الواقعي لكن المبالغة في استخدامها جعل الكثير من الأشخاص يعيشون حياتهم خلف كاميرات هواتفهم الذكية، مسكونون بفكرة أن هناك من ينتظر طوال الوقت تدفق الصور التي سيضعونها أو مقاطع الفيديو التي سيلتقطونها في ذلك المكان الذي يوجدون فيه، مؤمنين أنهم إن لم يضعوا تحديثاتهم الملتقطة فإن المتابعين لن يستطيعوا أن يعيشوا يومهم بشكل اعتيادي.

في عصرنا الحالي لم يعد غريبا أن ترى العديد من الأشخاص في التجمعات الأسرية أو تجمعات الأصدقاء منشغلون بالتقاط الصور والفيديوهات رغم أن أولئك الأشخاص ليسوا شخصيات عامة وحساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي الذين يحرصون أن يمدونها كل ساعة بصور وفيديوهات ليست وسيلتهم للتربح ولا مصدر رزقهم كما أن من يتابعونهم هناك لايتعدون حدود عوائلهم وأصدقائهم، وهنا قد تسأل ما سبب الحرص الشديد على تصوير كل شاردة وواردة في حياة هؤلاء ؟ هل هي الرغبة في مشاركة اللحظة فعلاً ؟ أم الشعور بالأهمية وأن هناك من ينتظر تلك الصور؟ أم الرغبة في التباهي في مشاركة الأماكن المهمة التي يرتادونها؟ أم أنه إدمان غير مبرر الدوافع؟

نذهب إلى الكثير من الفعاليات ونجلس مع الكثير من البشر لكننا منشغلون بالتقاط الصور لكل ما يحدث وكأن التصوير أصبح مهمتنا الأولى التي قد نفقد معها عمق اللحظات القريبة مع من نحبهم أو مع تفاصيل وجمال طبيعة دفعنا الكثير من المال كي نختلي بساعة معها لكننا ننشغل بالتغطيات المباشرة لتلك اللحظة عبر حساباتنا في وسائل التواصل الاجتماعي ، وكأننا المبعوثون الرسميون لتلك الفعاليات أو تلك الدول وفي حال عدم تغطيتنا لتلك اللحظة سيفقد المحتوى العربي مادة لا يمكن تعويضها.

نحمل معنا أينما اتجهنا شواحن الهواتف الإضافية وكأننا نخاف أن تخذلنا بطارية هواتفنا وتفقدنا تصوير مشهد مهم جداً لا نعرف كينونته، لكنه مهم فحسب! نصور في الدقيقة الواحدة عشرات الصور وتمتلىء ذاكرة هواتفنا بصور لن نشاهد أغلبها ولن نعود ربما إليها ما حيينا ، لكن التقاطها يأخذ منا من وقت ما يأخذه مع إمكانية الاستفادة منه في عيش اللحظة بدلا من توثيقها .

ماذا لو سافرنا ولم يعلم أحد بذلك، وتناولنا طعامنا مع الأهل أو الأصدقاء ولم نلتقط الصور ولم نتشاركها مع الآخرين أولئك المسكونون نحن بفكرة اهتمامهم بنا؟ ماذا لوضحكنا حد تعالي أصواتنا للسماء ولم نوثق اللقطة، وتذكرنا تفاصيل قريبة لقلوبنا ولم نكتب عنها للآخرين ؟ ماذا لو وضعنا هواتفنا لساعات بعيدا عن مستوى ذاكرتنا واهتمامنا وعشنا تفاصيل قرب من يحيطون بنا دون انشغال بتلك الصور المنتظر منا مشاركتها في حساباتنا في منصات التواصل الاجتماعي وكأنها واجب مدرسي ينبغي إنهائه ؟ ماذا لو فعلنا ذلك ؟ هل سيختل شيء في الكون ؟ لا شيء أبدا .

إن منصات التواصل الاجتماعي وسائل جيدة لمشاركة المعلومة والصورة ومقاطع الفيديو لمن نود مشاركتهم تفاصيل عوالمنا وما يشغلنا، لكن انشغالنا برغبة مشاركة اللحظة يسلبنا في حال مبالغتنا فيه حقنا في عيش حياتنا دون الالتفات لفلاشات كاميراتنا التي توثق كل لحظة من حياتنا التي لا نعيشها واقعيا ونشاهد تفاصيلها فقط في صورنا الملتقطة !