Randa-New
Randa-New
أعمدة

عطر: باختصار

27 يونيو 2018
27 يونيو 2018

رندة صادق -

[email protected] -

كلما صعد خطيبٌ إلى منبرٍ، سمعنا منه أنه سيتكلم باختصار، ونتفاجأ أن الاختصار عنده يقترب من المعلقات، وهذا ملاحظ بنشاطات مدينتي الثقافية والاجتماعية، حيث يشعر المدعوون بحالة من الملل والتململ ويفقدون انبهارهم بالحدث، ويدخلون بصمت مشوشٍ، فلا هم غائبون حقا ولا هم موجودون حقا، ويمر الوقت طويلا وحارقا لوحدات الصبر والتحمل، وأحيانا يترك كثيرون القاعة ويخرجون، مما يضعف قوة الحدث ويأخذ من متعة المتلقي بالاستماع والتفاعل مع موضوع الدعوة.

هذا الوضع يتكرر في معظم اللقاءات الثقافية والاجتماعية، وبات رهاب يُعمل حسابه قبل الذهاب إلى أي حدث، وخاصة بتحديد شخصية عريف الحفل وكيف سيدير الوقت، ويُبقي على انتباه الحضور، هذا الأمر لفتني وجعلني أبحث وأتساءل: لماذا فقد الإنسان المعاصر قدرته على الصبر ولم يعد يجيد فن الإصغاء، ولماذا بعد عشر دقائق من انطلاق أي مناسبة يبدأ الناس بتصفح صفحات السوشيال ميديا أو النظر إلى هواتفهم؟

هناك خلل يتعرض له المتلقي ويشتت قدرته على التركيز، فبحسب علم النفس الاجتماعي، فإن تركيز المجموعة لا يمكن جذبه، إلا في مواضيع محددة وغالبا، إما سياسية أو في الخطاب الديني، وهذا الأمر يتعلق بأهمية الموضوع، ومع هذا يؤكد أن أول عشر دقائق هي أهم عشر دقائق للتأثير في الجمهور، وما تبقى يحتاج الكثير من التشويق للمحافظة على مستوى التركيز، خاصة في زماننا هذا حيث نعاني من تلوث سمعي وبصري مصدره هواتفنا الذكية.

فيما مضى كان نصف العرب تقريبا يسهرون مع صوت أم كلثوم في سهرة ليلة الخميس، حتى تكاد تخلو الشوارع من المارة، ويجلس الجميع أمام المذياع يستمعون إلى صوتها وهي تمده مع الوقت وتعيد وتزيد في (الكوبليه) ولم يكن يشعرهم ذلك بالملل أو بالضيق.أما اليوم فالأغنية سريعة قصيرة، تكاد بعد أن تنتهي لا نتذكر اسمها ولا من غناها. الأدب أيضا بات قصيرا حتى بلغ الومضة والهايكو وجمل ومن ثم جملة وبضع كلمات.

إنه زمن الاختصار في كل شيء، حيث نرغب أن نقلص الوقت ونتعامل مع سرعته، فنحن نواجه الموت السريع، والتطور السريع، والتغيير السريع، ونريد أن نتنقل في القطار السريع والطائرة السريعة، فكيف لأناس يعيشون في سباق مع الوقت أن يجلسوا للإصغاء إلى تقديم أو مقدمة أو تعريف يتخطى الصفحة، في حقيقة الأمر أن بعض التعريفات أو الكلمات التي تسبق الشخصية الأساسية في الحدث تتخطى وقته، وحين يصعد إلى المنبر يقرر الاختصار غامزا إلى طول الكلمات التي سبقته محرجا من اختناق الوقت، وهو من داخله يشعر كما شعر هؤلاء الناس بالإطالة وثقل الوقت وخطف دوره في شرح وتوضيح رأيه أو فكره.

وطبعا هذا لا نجده بالغرب،حيث هناك التزام بالوقت المحدد، واختصار حقيقي في التقديم ودخول مباشر في الموضوع، وتركيزهم على المتعة والمعرفة المتبادلة والمستفادة بينهم وبين الحضور، لذا لا يلجأون في الغالب الى كلمات مكتوبة مملوءة بالبيان والسجع وحياكة الحرف، بل يتكلمون بعفوية ومن القلب وبلا حواجز، يلجون النفس البشرية ببساطة وبلا تملق أو تبجيل أو تفخيم، ويقولون الأشياء كما هي بلا رتوش، سوى آداب الحديث واحترام المتلقي.

هذا حلم في حفلاتنا الثقافية حيث تتم المبارزة بين المشاركين ويدخلون حرب إثبات لبلاغتهم وتميزهم، فيجد الحضور نفسه أمام مباراة ملاكمة خطابية، هو الوحيد المتأذي منها، لأنه يخرج من الحدث مثقل بالإحباط وغالبا لا يفهم شيئا مما سمعه. متى نتحرر من هوسنا في إبراز قدراتنا الفردية، فلا نعتدى أو نسرق من وقت المُكرم ونستولي على أحقيته في الكلام؟ أنا ليس لدي جواب هل لديكم أنتم؟