1367927
1367927
تقارير

هــل مــن مستقبــل لتيــار العولمة ؟

19 يونيو 2018
19 يونيو 2018

استجليتز: «إن العولمة لا يمكن اعتبارها خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا وهي على أي حال تبدو ظاهرة لا فرار منها»

إميل أمين/كاتب مصري -

[email protected] -

حين أطلق «مارشال ماكلوهان» عالم الاجتماع الكندي الشهير شعار «القرية الكونية»، كانت «العولمة» هي المفهوم السائد والوحيد لحال ومآل الكرة الأرضية، وقد أطلق عليها البعض لفظة «الكوكبية» نسبة إلى كوب الأرض وسكانه الذين تجاوزوا السبعة مليارات نسمة.

والشاهد أن تعريفات العولمة على كثرتها لم تكن لتقوم لها قائمة لولا وسائل التواصل الاجتماعي التي قربت المسافات وأزالت الحدود، وتجاوزت السدود، بشكل لم تعرفه الإنسانية من قبل، حتى وإن كانت الأجيال السابقة قد عرفت أنوعاً متباينة، وأشكالاً متنوعة من التواصل الإنساني تارة، والتناحر تارة أخرى.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بين يدي المشهد العالمي الآني ونحن نقترب من نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين: «هل من مستقبل لتيار العولمة؟».

السؤال منطلقه إخفاقات كثيرة تعتري الظاهرة، وضحايا كثر وقعوا صرعى الظاهرة، وأفق غائم ومستقبل غامض يهددان البشرية بحروب وأخبار حروب، وصراعات ونزاعات ومواجهات تجاوزت القضايا الأيديولوجية.

ولعل القارئ يتساءل: ما الذي يدفعنا لفتح هذا الملف في أوقاتنا الراهنة؟

الجواب في واقع الحال يسير وغير عسير، بمعنى أن كثيراً جداً من الظواهر التي تحدث حول العالم، لا سيما السياسية والاجتماعية منها، إنما تمضي في سياقات مغايرة لما كان الجميع يتوقعه ... ماذا عن ذلك؟

الثابت أن العولمة كان منوطا بها أن توحد البشرية في بوتقة انصهار واحدة تضم الأمم والشعوب، وتمضي بها نحو «المدينة الفاضلة» التي تحدث عنها الأدباء وشخص حالتها الفلاسفة، من الفارابي إلى أوغسطينوس.

غير أن النتيجة كما يتبدى من الأوضاع السياسية العالمية في الآونة الأخيرة تمضي في سياقات صحوة القوميات، وتنامي الأصوليات، بمعنى العودة من جديد إلى الظاهرة التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى «الجيتو»، حينما كان يهود أوروبا يفضلون العيش في كيانات جغرافية صغيرة وضيقة مجتمعيا، بمعنى ألا يسكن فيها سواهم.

وقد يتسع «الجيتو» في حاضرات أيامنا ليضحى أوطانا، وشعوبا، ولكنها أوطان وشعوب لا تقبل الآخر، وإنما تنظر له نظرة مريبة ومخيفة تبدأ من عند التشكيك في هويته، إذا كان مغايرا دينيا أو عرقيا، وصولا لدعوات طرده وعزله، ومرورا بكافة صور التعاطي العنصري المرفوض ضمن شرعة حقوق الإنسان.

أحد أفضل العقول الأمريكية التي قدمت نقدا موضوعيا للعولمة وأسباب إخفاقها في تقدير كاتب هذه السطور «جوزيف استجليتز» الاقتصادي الكبير الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001، ومن خلال نقده العميق لظاهرة العولمة، يمكن للقارئ أن يتنبأ نبوءة أقرب إلى استشراف الواقع عن المستقبل الذي ينتظر ظاهرة العولمة.

يذهب استجليتز إلى أن العولمة لا يمكن اعتبارها خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا، وهي على أي حال تبدو ظاهرة لا فرار منها، وهنا - والحديث للاقتصادي المصري الكبير الدكتور جلال أمين- لا بد أن نتفق مع استجليتز في هذا، فالعولمة فيما يبدو هي النتيجة الطبيعية للتطور التكنولوجي، والتطور التكنولوجي بدوره نتيجة طبيعية لذلك الحافز القوي الكامن في الإنسان ويدفعه باستمرار إلى محاولة اكتشاف أية وسيلة جديدة من شأنها تخفيف أعباء الإنتاج ومشاق الصراع من أجل الحياة.

هذا التطور التكنولوجي لا بد أن يؤدي ببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى إلى مزيد من التقارب بين الناس ولو تقاربا ماديا بحتا، وتضاؤل المسافات الفاصلة بين الأمم المادية وغير المادية، وهذا لا بد بالضرورة أن يكون خيرا من بعض النواحي وشرا من نواحي أخرى.

يمكن القطع في هذا الإطار أن مستقبل العولمة كتيار حاكم للعقود القادمة مرتبط بالمؤسسات الدولية التي صنعت هذا المفهوم، وفي المقدمة منها المؤسسات المالية التي باتت تتحكم في شعوب العالم النامي، وكذلك الفقراء بنوع خاص في عالم الجنوب، ومن تلك المؤسسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والشركات الكبرى التي تمارس أنواعا من الاحتكارات العالمية في الأرض، وكذلك في الفضاء، وقد جاء «المونديال» الأخير، ليشير إلى معنى امتلاك حقوق البث الفضائي من قبل البعض، وحرمان البعض الآخر من رؤية تلك الفعاليات الرياضية التي هي حق لكل البشرية، دون أن يمتلك أحد الحق في احتكار رؤيتها، وحرمان الآخرين من هذا الحق.

والمؤكد أن مستقبل العولمة غير واضح، فهناك ما يشبه الثورات والفورات والتحالفات الجديدة حول العالم، وهي بلا شك سوف تزعزع الأساسات القديمة للنظام المالي العالمي «بريتون وودز» الذي يهيمن على المقدرات المالية للعالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة.

يدرك الناظر للمشهد الدولي أن الغرب الذي كان قلب العالم لأكثر من سبعة عقود (1945 - 2018) استطاع عبر البنك والصندوق الدوليين التلاعب بالعالم وإدارته ماليا واقتصاديا لصالح القوى العظمى، وليس سرا، أنه عاث فسادا، وأن تدخله في دولة بعد أخرى من الدول التي اضطرت إلى اللجوء إليه، لم يأت إلا بالكوارث الاقتصادية والاجتماعية لها. ليس سرا أن ما جرى في العديد من البلدان العربية بل الأوروبية كاليونان والبرتغال من فورات مجتمعية إنما كان نتاجا لسياسات العولمة المالية التي أفرزت ضحايا هم فقراء العالم، في حين ازداد الأغنياء غنى وتعاظمت ثرواتهم، فالفقراء هم الذين يتحملون مغبة سياسات الصندوق والبنك الدوليين، سواء في صورة تخلي الدولة عن التدخل لصالحهم، وإلغاء أو تخفيض ما يقدم من دعم السلع والخدمات الضرورية، أو شيوع البطالة وارتفاع أسعار الواردات الضرورية، أو زيادة معدلات الضرائب وفاء بديون ما، أو تخفيضا لعجز في الموازنة يثير الكثير من الجدل بشأنه.

لم يعد من اليسير الاصطفاف في طابور أنصار العولمة والمدافعين عنها، سيما أن الأمر بالنسبة لهم لا يعني سوى شيء واحد انتصار النموذج الرأسمالي الغربي، وبنوع خاص الطراز الأمريكي منه، وقد وصل الأمر بـ «عرابي العولمة» من أمثال المفكر الأمريكي « فرانسيس فوكاياما» إلى أن أعتبر الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وهي دعوة شمولية لا تختلف كثيرا عن رؤية الألف عام عند أصحاب «الرايخ الثالث» من الألمان في زمن النازية الهتلرية، غداة الحرب العالمية الثانية.

يعتبر ذلك الطابور من أنصار الرأسمالية المعولمة، أن دربهم هو الفعال الأكيد لكل ما يبغي حكام العالم الجدد ويريدون من أوامر ومتطلبات تعزز هيمنتهم وسيطرتهم على مقدرات العالم الاقتصادية والسياسية، وينصحون الدول النامية بأنه لا مفر أمامهم من قبول قواعد العولمة على النحو الذي يرونه، إن أرادوا النمو، ومحاربة الفقر بشكل فعّال.

لقد شعرت الملايين حول العالم بأن العولمة خدعة كبرى، لم تجلب لهم الحياة الرغدة ولا حققت المكاسب الاقتصادية التي وعد بها مروجو نظريات الاقتصاد الحديثة، فالهوة المتزايدة بين من يملكون ومن لا يملكون، قد تركت أعدادا متزايدة في العالم الثالث في فقر مدقع، حيث يعيش الفرد بأقل من دولارين في اليوم، وذلك رغم الوعود المتكررة التي قطعت على امتداد العقدين الأخيرين من القرن العشرين بخفض الفقر، سيما أن العدد الفعلي لمن يعيشون تحت خط الفقر تجاوز المليار نسمة، حدث ذلك في الوقت الذي يزداد فيه فعلا إجمالي الدخل العالمي بنسبة 2.5% سنويا في المتوسط.

أمران من المؤكد أنهما سوف يحددان مستقبل العولمة، وأغلب الظن أنهما عاملان سلبيان في مسيرة هذا المفهوم الذي لم يطل به المقام لأكثر من ثلاثة عقود ... الأول هو الفقر، والثاني هو الاستقرار السياسي، فهل من نماذج بعينها يمكن اعتبارها أدوات معيارية للقياس عليه؟

من أسف يمكن القول: إن قارة أفريقيا هي الموقع والموضع حيث يتضح الفقر في أبشع صورة، ويظهر إخفاق العولمة كما لا يظهر أثره السلبي في مكان آخر حول العالم.

في أفريقيا لم يتم تحقيق الطموحات الكبيرة التي تلت التحرر من الاستعمار، فبدلا من ذلك غاصت القارة في الفقر بشكل أعمق، عندما تناقصت الدخول وانخفضت مستويات المعيشة.

إن التحسن الذي تم تحقيقه بصعوبة في متوسط العمر المتوقع خلال العقود القليلة الماضية قد بدأ في الانعكاس. وبينما يقع بلاء الإيدز في مركز هذا التقهقر، فإن الفقر أيضا قاتل. حتى البلدان التي تخلت عن الاشتراكية الإفريقية، وتدبرت أمرها لتشكيل حكومات كفؤة بدرجة معقولة، ووازنت ميزانياتها واحتفظت بالتضخم عند مستوى منخفض، وجدت أنها ببساطة لا تستطيع جذب مستثمري القطاع الخاص، وبدون هذا الاستثمار، لا تستطيع تلك البلدان أن يكون لديها نمو ثابت.

ماذا عن الاستقرار السياسي، وهل جذبت العولمة استقرارا سياسيا لمناطق جغرافية بعينها معروف عنها اضطراب واقعها في الماضي والحاضر، واحتمال قلاقل من حولها في المستقبل؟

الشاهد بحسب البروفيسور «استجليتز» أن العولمة كما لم تنجح في تخفيف الفقر فإنها لم تنجح أيضا في تأمين الاستقرار؛ ذلك أن الأزمات في الكثير من الدول الآسيوية، وكذا دول أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، قد هددت الاستقرار السياسي للعديد من الأنظمة هناك، وقد كانت الاضطرابات المالية سببا مباشرا ولا شك في حدوث ثورات سياسية، ومؤامرات، وتكرار الانقلابات الأمر الذي عطل عملية النمو الاقتصادي، وبخاصة في ضوء القاعدة التقليدية الاقتصادية «رأس المال جبان».

لم تجلب العولمة أي استقرار سياسي حول العالم وكذا أيضا أخفقت في أن تبسط حمايتها المالية على العالم، وقد حدث بالفعل ما توقعه الكثيرون من انتشار عدوى الانهيارات المالية، فما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة مالية في العام 2008م ضرب الاستقرار المالي لبقية العالم، وقبل بذلك بنحو عقد من الزمان أي في 1997 و 1998 كان الانهيار في الأسواق الآسيوية دالة وتابع لانهيارات في أسواق العملة في بلاد بعيدة.

هل من خلاصة في نهاية هذه السطور؟

باختصار غير مخل يمكن القول إن العولمة عملة وجهين: الجانب الإيجابي يمكن أن يتصل بأفكار خاصة بالديمقراطية والمجتمع المدني، وتخفيف الديون، واتفاقيات رفع الألغام، ومجابهة الاحتكار.

فيما السلبي يتمثل في أنها أخفقت في تحسين حياة ملايين البشر، حيث تأثرت وظائفهم، وأصبحت حياتهم أقل ضماناً وأمناً عن ذي قبل، فقد باتوا يشعرون بالعجز بشكل متزايد أمام قوى تتخطى سيطرتهم ..

وعليه فإنه إذا ظلت العولمة تدار بالطريقة نفسها كما في السابق، وإذا استمر حكام العالم الجدد في عدم التعلم من أخطائهم السابقة، فإن العولمة لن تفشل فقط في تشجيع وتعزيز التنمية، ولكنها ستستمر في زيادة الفقر وعدم الاستقرار، وإن لم تحدث إصلاحات فإن الصدمة الارتدادية التي بدأت بالفعل ستتسع وتزداد قوة، وسيتنامى السخط من العولمة.