أفكار وآراء

الدول الكبرى بلا أدوار محددة في الشرق الأوسط!!

19 مايو 2018
19 مايو 2018

د. عبد العاطى محمد -

لم تعد أدوار الدول الكبرى محددة في منطقة الشرق الأوسط. الخلافات بينها كبيرة، ولم تعد سرية أو مكتومة، بل علنية وصاخبة. تندفع أحيانا بعلاقاتها المتبادلة إلى حافة الهاوية فيكتم العالم أنفاسه،أو تتراشق بالبيانات والتغريدات فتبدو مواقفها السياسية شديدة الخصومة ومنذرة بحرب باردة جديدة. تطالعنا رسميا كل يوم بأنها متفقة على استقرار وأمن ورفاهية المنطقة، بينما على صعيد الواقع لا تتبنى أدوارا محددة تتسق مع هذه الأهداف، حيث لا تعرف ماذا تريد،وما هي القدرات التي تمكنها من تحقيق ما تريد، وما هي السياسات التي تتبعها؟ ففي كل يوم هي في شأن مختلف.

نستثني مؤقتا الإشارة إلى أدوار الدول الإقليمية برغم أهميتها بالطبع، لأن الدول الكبرى خطفت الانتباه إلى حد الرغبة في الاستحواذ على كل مقاليد الأمور صغيرها وكبيرها فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط السياسية والأمنية والاقتصادية. وقد يبدو ذلك أمرا عاديا ومتوقعا انطلاقا من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة منذ زمن بعيد وعليه لا غرابة أن تهتم الدول الكبرى وإلى حد كبير بكل ما يجرى من أحداث ومواقف. كما قد يكون ذلك أمرا مفيدا للمنطقة ذاتها عندما تستطيع أن تستغل الاهتمام الدولي بها فيما يعود عليها بالنفع من خلال التنافس الدولي. ولكن ذلك كله يمكن قبوله كأمر طبيعي ومرغوب فيه لو أن الدول الكبرى تعرف جيدا أين تضع قدميها هنا أو هناك ومتى تتدخل وكيف تنجح في تحقيق ما تريد، وأن هذا وذاك معلوم لدول المنطقة مسبقا. إلا أن المشهد الذي يرسم ملامح أدوار الدول الكبرى لا يفيد إلا بالتضارب في المواقف الدولية والمفاجآت والتحول من موقف إلى نقيضة في غمضة عين، فضلا عن أنه يتسم بالسخونة الشديدة التي تترك انطباعا بأن المنطقة أضحت عمليا ساحة لحرب باردة جديدة أو ميدانا للصدام الدولي الذي لا يستبعد الخيار العسكري.

ومن المؤكد أن المنطقة متخمة بالمشكلات الحادة والأزمات المستعصية في أكثر من مجال، وأنها في كثير من الأحيان هي التي تستدعي الدول الكبرى للتدخل في شؤونها. ليس في ذلك جديد، ولكننا نتحدث عن سلوكيات الدول الكبرى فيما بينها البعض وتجاه المنطقة بالتالي. ففي ظل إمكانياتها المختلفة وما تحظى به من قوة تأثير في تحديد مصير العالم وما وصلت إليه من تقدم في شتى المجالات وما تتبناه من دعوات للسلام والأمن والرفاهية للجميع، فضلا عن قدرتها المنفردة تقريبا على اتخاذ القرارات المصيرية لشعوب العالم أجمع، لا يمكن التصورعقلا وعلما أنها دول لم تعد تعرف دورها الصحيح في المنظومة العالمية وأنها لا تتورع عن اللجوء لأسوأ السلوكيات التي عفى عليها الزمن منذ الحرب العالمية الثانية لاتخاذ موقف معين قد يعكس مصالح طارئة أو رغبة في حرمان المنافسين من مصالح معينة. والأخطر من ذلك أن تصبح التضحية بالمصداقية شيئا عاديا عند هذه الدول.

دون الدخول في جدل النقاش حول الخلاف الأمريكي الإيراني بخصوص البرنامج النووي الإيراني وما قام به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق الموقع مع طهران 2015 أواخر عهد باراك أوباما، فإن الحدث ذاته كان كاشفا إلى حد كبير لغياب الرؤية المحددة لأدوار الدول الكبرى في قضايا الشرق الأوسط الساخنة. وأيا كانت حسابات ترامب من وراء هذا القرار، فهل الهدف منه الزج بالمنطقة كلها في حرب شاملة، أم الدفاع عن إسرائيل، أو الصدام مع روسيا إلى حد التهديد بحرب عالمية ثالثة، أم إيجاد حل ما للأزمة في كل من سوريا واليمن، أم أن هناك صراعا اقتصاديا عالميا على الأبواب مصدره الشرق الأوسط، أم بداية لحرب اقتصادية بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية؟.. الأسئلة تطول والموقف يسمح للخيال بأن يذهب كيف يشاء من التوقعات. ولكن من المؤكد أن الموقف برمته لن يفيد أحدا في النهاية بل الخسارة هي النتيجة المتوقعة للجميع، على الأقل لأن له تكلفة باهظة مادية كانت أو غير ذلك لا يصح أن تدفع تحت أي مبرر من المبررات. ومن الواضح - دون مبالغة - أننا أمام ثلاثة أو ستة أشهر ساخنة وعصيبة على الجميع يتم خلالها فرض العقوبات التي يريدها الرئيس الأمريكي مع كل ما يترتب على ذلك من تصعيد حاد للأجواء السياسية في المنطقة بدلا من العودة بها إلى حالة مقبولة نسبيا من الهدوء والاستقرار.

الشكوك التي تحيط بإمكانية أن يؤتي القرار الأمريكي ثماره كثيرة، فالدول الشريكة الأخرى الموقعة على الاتفاق عارضت القرار وسعت قياداتها إلى إثناء ترامب عن قراره ولم يعتد بمواقفها والمقصود هنا الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، لأن شركاتها ستتضرر كثيرا من القرار، فضلا عن اقتناع هذه الدول بأن إيران لم تخرق الاتفاق.وقد جربت الولايات المتحدة سلاح العقوبات من قبل ولم يؤثر على موقف طهران التي لها بدائل دولية عديدة لمواجهة التأثيرات السلبية المتوقعة على الاقتصاد الإيراني. ومن الصعب على الاتحاد الأوروبي أن يضحي بمصالحه الاقتصادية مع طهران، ولديه من الآليات القانونية التي يمنع بها التأثيرات السلبية للقرار على نشاط شركاته.ومن جهة أخرى فإن روسيا لا تريدها حربا مع الولايات المتحدة في سوريا برغم تأييد موسكو للرئيس السوري بشار الأسد، ولا تريدها حربا مع إسرائيل أيضا فبينهما صداقة ، وكان من اللافت أن الصواريخ الإسرائيلية قصفت مواقع إيرانية في سوريا بينما كان الرئيس الروسي بوتين يستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي في موسكو!، كما لم تسلم موسكو صواريخ أس 300 لسوريا بعد أن كانت قد وعدت بذلك ، عقب الهجوم الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي على سوريا. وفي السياق ذاته كان وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان قد أكد أن إسرائيل لا تريدها حربا مع إيران على الأراضي السورية. المعنى من المرور السريع على هذه التطورات أن الدول الكبرى لا تمانع في أن تدفع بعلاقاتها إلى التوتر الشديد وإيجاد أجواء الحرب فيما بينها، ولكنها عند لحظة بعينها تعتبر الحرب خطا أحمرا فلا تجازف بالخوض فيها، بل الملفت أنها لا تمانع في الحفاظ على العلاقات الطيبة بين بعضها البعض، وأنها تتصارع سياسيا وتتغازل اقتصاديا لأنها تعلم جيدا حجم التكلفة الباهظ الذي ستدفعه إن اتجهت إلى خيار الحرب.

الأسباب التي تفسر عدم قدرة الدول الكبرى على تحديد أدوارها في الشرق الأوسط عديدة منها طبيعة القيادات التي يغلب على فكرها «النزعة الإمبراطورية» أي التوسع استخداما للقوات المسلحة، هذه النزعة يصعب وضع حدودها وطريقة تنفيذها ومن ثم عدم وضوح الدور في الزمن القصير كما هو قائم الآن. وهناك أيضا أن التنافس أو فلنقل الصراع بين الدول الكبرى أصبح صراعا بين الأصلاء وليس الوكلاء. فحتى زمن قريب مضى كان للتدخلات الدولية رجالها في الداخل كالكيانات أو الميليشيات المسلحة التي تقوم بالمهمة نيابة عن الدولة الكبرى. وبعد الفشل الذي منيت به مثل هذه الكيانات سواء في العراق أو سوريا لم يعد بالإمكان الاعتماد على هذا الأسلوب وباتت المواجهة صريحة تماما بين الدول الكبرى ذاتها. ما يحدث في مجلس الأمن خير دليل على ذلك حيث الكل يتربص للكل ويمتلك الوسيلة التي تجهض رغباته. ومواقف روسيا تجاه المعارك والتدخلات الإسرائيلية القائمة بين إسرائيل وكل من القوات الإيرانية والسورية والتي تظهر بجلاء حياد موسكو وامتناع الأخيرة عن تسليم الصواريخ المتطورة لدمشق هي دليل على عدم اتضاح الدور الروسي في الأجل المنظور انتظارا لجلاء الموقف العام برمته. والعملية العسكرية المظهرية التي قامت بها القوات الأمريكية على خلفية استخدام النظام السوري أسلحة محرمة دوليا ضد المدنيين والتي تمت تحت نظر الوجود العسكري الروسي هناك إضافة للقرار الأخير بالانسحاب من الاتفاق النووي، كلها مؤشرات على أن الدول الكبرى لا تعرف ما تريد الآن من قضايا الشرق الأوسط. ربما يكون هذا هو الخبر الجديد في المشهد الراهن، لأنه يسمح لمن يريد أن يطفئ النيران أن يعمل بسهولة، أي يسمح للوساطات أن تعمل وتتوصل إلى حلول بديلة للحروب الافتراضية المنتشرة في أجواء الشرق الأوسط.