1224252
1224252
إشراقات

العناية بالبيئة.. بين الواجبات الشرعية والمسؤوليات المجتمعية

18 يناير 2018
18 يناير 2018

البيئة والإنسان.. صراع أم توافق -

فوزي بن يونس بن حديد -

[email protected] -

«من أهم ما دعا إليه شرعنا الحنيف النظافة الشخصية ونظافة المكان الذي نعيش فيه، فهو يحارب النجاسة بكافة أنواعها ويدعونا جميعا إلى التخلص منها، واستخدام كل أدوات الطيب والزينة ليظهر المسلم في أبهى صورة، ويلبس اللباس النظيف الذي لا تشوبه نجاسة ولا يعلوه درن، ومن هذا يتبين أن الإسلام دين الجمال والنظافة، وإذا حافظ كل مسلم على نظافته الشخصية والتزم بتعاليم النبي الكريم صلى الله عليه سلم الذي وجّه العالم إلى هذه التفاصيل، فإن المحيط الذي يعيش فيه والبيئة التي يتعايش معها ينبغي أن تكون نظيفة لا يلوّثها شيء من صنع الإنسان نفسه، ومن مبدأ لا ضرر ولا ضرار، يسعى المسلم إلى حماية البيئة التي يعيش فيها من كل ما يكدّر صفوها ويلوّث محيطها»

أدرك العالم اليوم أن التلوّث سبب رئيس من أسباب انهيار الإنسانية وانتشار الأمراض الخطيرة والمتنوعة، وبالتالي سارع إلى اتخاذ إجراءات لمحاربته، فعقد الاجتماعات الواحد تلو الآخر لمحاولة احتواء جشع الإنسان وطمعه في الحصول على منافع شخصية دون مبالاته بالحالة الصحية للناس من حوله، فهو وإن كان متضرّرا أيضا في العملية إلا أنه يقدم الربح المادي على صحته وصحة الآخرين، ورغم أن العالم يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أن البيئة العالمية تعيش كوارث بسبب التلوث الحاصل من المصانع والشركات وأنابيب الغاز والصرف الصحي وعبث الإنسان بالكون والطبيعة إلا أنه لم يُقدم على إجراءات صارمة وحاسمة تخرج العالم كله من هذا الوباء وتجعل الناس يستنشقون الهواء النقي الطبيعي الذي لا يلوّث الجهاز التنفّسي للكائنات ولا يسبب لها ضيقا ولا تعبا.

وعندما جاء الدين الحنيف أراد أن يرسّخ في الإنسان حبّ البيئة، والحرص على نظافتها من كل درن، والاهتمام بصحة الإنسان أينما وُجد وأينما حلّ، فسخر الله سبحانه وتعالى الكون كله لهذا الإنسان لا ليعبث به ويستغله بوحشية بل لينعم بخيراته وأدواته ويسهم في تعميره، ويهيّئ المكان للأجيال المقبلة فقال عز وجل في كتابه العزيز: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وأمام هذا التسخير الإلهي العظيم، فقِه المسلمون الأُوائل معنى المحافظة على الكون نظيفا من أي تلوّث، فعاشوا على الطبيعة ومن الطبيعة، وقدّم الإسلام نموذجا رائعا للنظافة والطّهر ودعا إلى ذلك فقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» بعيدا عن النجاسة والتلوث، فأمر بغرس الأشجار عندما قال صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها» وقوله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»، فزرع الفسيلة دليل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على التوازن البيئي ودعوة إلى إعمار الكون والمحافظة على زينته، لأن النبات في أساسه مفيد للإنسان لأنه يمنحه الأوكسيجين، وبالتالي فإن الزرع له فوائد عظيمة في بيئة الإنسان نفسه يحميه من أي ميكروبات أو جراثيم دخيلة.

ومن أهم ما دعا إليه شرعنا الحنيف النظافة الشخصية ونظافة المكان الذي نعيش فيه، فهو يحارب النجاسة بكافة أنواعها ويدعونا جميعا إلى التخلص منها، واستخدام كل أدوات الطيب والزينة ليظهر المسلم في أبهى صورة، ويلبس اللباس النظيف الذي لا تشوبه نجاسة ولا يعلوه درن، ومن هذا يتبين أن الإسلام دين الجمال والنظافة، وإذا حافظ كل مسلم على نظافته الشخصية والتزم بتعاليم النبي الكريم صلى الله عليه سلم الذي وجّه العالم إلى هذه التفاصيل، فإن المحيط الذي يعيش فيه والبيئة التي يتعايش معها ينبغي أن تكون نظيفة لا يلوّثها شيء من صنع الإنسان نفسه، ومن مبدأ لا ضرر ولا ضرار، يسعى المسلم إلى حماية البيئة التي يعيش فيها من كل ما يكدّر صفوها ويلوّث محيطها. ومعنى ذلك أن يسعى إلى إنشاء الحدائق والمسطحات الخضراء والأشجار المثمرة وغير المثمرة، للزينة واستنشاق الهواء النقيّ وإحداث التوازن البيئي مما يحفظ حياة الإنسان ويحافظ على صحته طوال حياته، أما إذا أهمل ذلك كله ورمى بهذه التعاليم النبويّة الكريمة وراء ظهره فإن كل شيء سيتغير وتضطرب الطبيعة ويختلّ توازن الإنسان ويعرّضه إلى ما لا يحمد عقباه. فالله عز وجل عندما خلق الكون وسخّره للإنسان، أمره بأن يحافظ عليه من خلال الالتزام بنواميس الكون الإلهية وألا يعبث به تلبية لشهواته وملذاته لأن ذلك يعود عليه وعلى الأجيال المقبلة بالخسران والوبال.

وفي عصرنا والعصر الذي قبلنا، عندما تطورت الحياة واكتشف الإنسان النفط ومشتقاته وكنوز السماوات والأرض، اشتهى أن يعبث في الكون وطمع في الربح المادي وأصابه الجشع وعمى بصره عن الآثار السيئة التي تصاحب أعماله، بدأنا نشهد تغيّرات في الكون، فكل اعتداء سافر يقابله رد فعل، وكان رد فعل الكون عنيفا، إذ غضب الله سبحانه وتعالى من تعالي الإنسان وأنزل مقته الشديد عليه لما يفعله من أفعال تناقض الفطرة السويّة وتعاكس الطبيعة الكونية، فأنشأ المصانع والمؤسسات والشركات دون أن يعتني بالبيئة وما حولها ومدى تأثر المحيط بما يفعله، فالمخلفات التي تتركها المصانع والأبخرة التي تنفثها، وكذلك الأدخنة المتواصلة من السيارات وكل وسائل النقل الحديثة من الطائرات والبواخر والصواريخ، تخنق الإنسان والحيوان والنبات، وجعلت العالم كله معرّضا للكوارث والنوازل التي تحدثها هزات الطبيعة من الفيضانات والزلازل وثوران البراكين، وتغيّر المناخ.

ولعل أكثر مما يعاني العالم اليوم، يعاني مما يسمى بتغيّر المناخ، ولماذا تغيّر أو يتغيّر المناخ باستمرار؟ بحث علماء المناخ ذلك فوجدوا أن معاكسة الإنسان للطبيعة النقية هو السبب الرئيس لتغيره، فعندما لم يعبأ بالتطورات التي حدثت في العالم في عالم التقنيات والتكنولوجيات، والطفرة النوعية التي وقعت في عالم الأطعمة والمشروبات، والنقلة السريعة التي ظهرت في وسائل النقل الحديثة، ووسائل التبريد والتكييف والتسخين، حدثت بعدها حيرة ودهشة، دهشة لأن العالم قد تغيّر نحو الأفضل في البحث عن وسائل الترف مما كان يعانيه سابقا سواء في الأكل والشرب أو في النقل أو في البناء والتعمير، وحيرة لأن العالم تغيّر نحو الأسوأ مما خلفته وتخلفه هذه الوسائل من تلوث عادت وتعود بالضرر الكبير على صحة الإنسان والطبيعة والكون، أفقد الدول توازنها وقررت جميعا التقيد بالمحافظة على البيئة حفاظا على الكون من الانهيار، فعقدت المؤتمرات والملتقيات وحزمت بعض الدول أمرها من خلال سن إجراءات صارمة لمواجهة التلوث بينما بقيت دول أخرى تعاني منه لأنها لم تتخذ إجراءات عاجلة لمواجهة الضرر.

وبقيت الدراسات الحديثة تظهر الواحدة تلو الأخرى تحذّر مما سيقع، وتصنّف الدول الأكثر تلوثا في العالم، ولكن قليلا من هذه الدول التي تنتبه إلى هذه المأساة الكبيرة، وتزعم أنها بمأمن عن أضرارها الشاملة، بينما سعت دول أخرى وفي مقدمتها السلطنة إلى الحفاظ على البيئة بمختلف أنواعها البرية والبحرية والنباتية والحيوانية من أي تلوث قد يقع نتيجة تصرفات الإنسان، وسنّت قوانين صارمة في هذا المجال وأنشأت وزارة كاملة تعتني بها أسمتها وزارة البيئة والشؤون المناخية. لذلك من أهم ما يمكن أن تفعله الدول هو توعية الشعوب بأهمية الحفاظ على النظافة باعتبارها واجبا شرعيا وضرورة بيئية، من خلال التصرف السليم مع الواقع والمحيط، كالتخلص السليم من النفايات والمخلفات، واتباع الإرشادات، والاعتناء بالنظافة الشخصية وعدم العبث بالمرفقات وجميع المكتسبات الشخصية والعامة التي بنتها الدولة ليستفيد منها المواطن والمقيم والزائر.

ومما ينبغي أن تقوم به أي حكومة في العالم، البحث عن وسائل مبتكرة وحديثة تنظم حياة الفرد وتجعله يقبل على كل جديد مفيد للبيئة والمحيط، ويتابع النشرات البيئية والتحذيرات التي تساهم في التلوث وانتشار الأمراض والأوبئة، وتخطط لمستقبل الأجيال حتى لا يعاني مما خلفه أصحاب الطمع والجشع الذين لا يفكرون إلا في الربح المادي الآني، دون اعتبار لصحة الإنسان والحيوان والنبات، وينبغي وبذلك تعيش الدولة ومواطنوها في أمن وأمان وسلم وسلام.