أفكار وآراء

إدارة السرعات المتفاوتة

01 نوفمبر 2017
01 نوفمبر 2017

مصباح قطب -

واحدة من اعقد المشكلات الإنسانية في الزمن الراهن هي التفاوت الرهيب بين إيقاع الأداء العملي والاجتماعي، المالي والوظيفي، الاستثماري والادخاري، عند الأفراد والمجموعات والكيانات الاقتصادية أو الإدارية أو المالية. ومن المؤكد أن التقدم التكنولوجي يتحمل مسؤوليةً كبيرةً عن هذا التفاوت، كما يعود السبب أيضًا إلى عوامل تعليمية وثقافية ومجتمعية مختلفة، وعليه فإن من أصعب الأمور هو القدرة على إدارة دولة أو مؤسسة أو كيان صغير أو حتى إدارة الذات في ظل هذا الاختلاف الشديد بين الإيقاعات هنا وهناك، وقد قلت حتى «إدارة الذات»؛ لأن الفرد الواحد قد يعيش هو ذاته بإيقاعات شديدة التباين داخل يومه العملي والاجتماعي.

وللتوضيح فإن ما نعنيه بالتفاوت في السرعات هو على سبيل المثال ما يتجلى في احتياج العاملين في أسواق المال إلى تحويل الأموال بأقصى سرعة ممكنة أو فلنقل في «لا زمن» سواء داخل البلد أو عبر الحدود، وهناك تنافس شرس بين مصممي ومقدمي برامج «السوفت وير» التي تدعم هذا الاحتياج، ولا يود طالبوا تلك الخدمات ان يتوقفوا كثيرا عند تكلفة الخدمة ففي كل الحالات هم يقولون لأنفسهم «تايم إز موني»، وبالتالي فإن الوقت الذي يكسبونه اهم عندهم من التكلفة التي سيدفعونها مقابل الخدمة. بمواجهة ذلك فإن تحويلات العاملين من الخارج لذويهم وهي ذات دور مهم في حياة ملايين الأسر التي تنتظرها بشغف حيث يلبي جانبًا منها احتياجاتهم اليومية أو التشغيلية ويذهب الجزء الباقي - إذا كان هناك باق - إلى الأوعية الادخارية وتسديد أقساط وحدات سكنية مشتراة من قبل.. الخ.

مثل هؤلاء الناس لا يهتمون كثيرًا بعنصر الوقت أو لا يهتمون بالزمن بنفس القدر من الأولين. لا يعنون بفاقد الوقت بقدر اهتمامهم بعنصري الأمان والتكلفة، ولنلاحظ أن جزءًا من أموالهم وكما قلنا يذهب إلى الاستثمار أو الادخار وبالتالي فإن تعطيل التحويل يعني نوع من الخسارة لكنهم لا يأبهون لذلك إلى حد بعيد، ومن هنا فإن أي بنك ذكي يريد كسب هؤلاء الناس فإن عليه أن يبادر إلى تقديم خدمة التحويل - البطيء نسبيًا - مجانًا أو شبه مجان ليجتذب أعدادًا وفيرةً منهم ويقوم هو بدوره بتوظيف الأموال خلال الأيام المعدودة التي سيتأخر فيها التحويل بنظام الفائدة ليلة بليلة أو استثمار الأموال في عمليات مثل «سيم داي تريدنج» أي شراء وبيع الأوراق المالية في اليوم نفسه ليحقق بذلك مكاسب أعلى، غالبًا، مما كان سيحصل عليه من تقديم خدمة سريعة بكلفة محدودة. في كل الحالات فإن المثالين السابقين يوضحان الفارق بين إيقاع العمل لفئة أو طبقة /‏‏ طبقات والإيقاع عند فئة أخرى، ومقدار التباين بينهما، ويمكنك أن تقيس على ذلك عشرات أو مئات المعاملات في حياة البشر من الفئات الاجتماعية المختلفة.

وقد أثار كل ذلك في ذهني ندوة عقدها المركز الدولي للمشروعات (سايب) يوم الجمعة الماضي، حول الاقتصاد غير النقدي وتأثيره على الاستثمار و الشركات الصغيرة والمتوسطة . حضر الندوة ممثلون حقيقيون للمشاريع الصغيرة وإعلاميون وخبراء في تكنولوجيا المعلومات ومصرفيون وممثلون لمنظمات مجتمع مدني وشخصيات عامة ورسمية ونواب، بما أتاح فرصة للتعرف على أبعاد إضافية لقضية تفاوت السرعات التي تحدثت عنها . لقد وجدنا من يتحدث عن ضرورة إزالة العقبات بسرعة أمام «الأونلاين بانكينج» ومن بينها القيود التي يفرضها المركزي او تفرضها طبيعة سرعة الإنترنت أو متطلبات حماية البيانات، إلا أن المجتمع لا ينتظر في واقع الأمر إلى درجة أن المحافظ المالية على الهاتف المحمول تزيد بمقدار 300 ألف شهريًا، وسيصل عددها بعد عام إلى أكبر بكثير من عدد الحسابات المصرفية للبالغين، والمعروف أن جهاز المحمول يعمل هنا كوسيط وليس كبنك فالبنك المركزي يرفض الوظيفة الأخيرة بالطبع، ونحن نعرف أن تقديم الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول قد تأخر لسنوات حتى وجد البنك المركزي (ونحن نتحدث عن حالة مصر) الصيغة المناسبة للعمل والتي بمقتضاها يتم ربط كل شركة (موبايل بانكينج) مع بنك بعينه.

الطريف انه حتى المجتمع التقليدي الذي اعتاد الادخار عبر ما يسمى بنظام «الجمعية» وهو نظام يشارك فيه عدد من الأفراد بدفع مبلغ شهري ثابت ويتناوبون على قبض الحصيلة شهريًا حسب ترتيب متفق عليه تم وضعه بناء على ظروف كل شخص، وهو نظام معروف على نطاق واسع في أوساط الموظفين والفئات محدودة الدخل أو هو بمعنى آخر طريقتهم في الادخار لمواجهة متطلبات معروفة مسبقا (مثل شراء جهاز تلفزيون - دفع مقدم وحدة سكنية - شراء جهاز سمارت فون الخ )...حتى هؤلاء أصبحوا يتطلعون إلى الانترنت ليساعدهم على تشكيل الجمعيات بين أفراد قد لا يكون قد رأى أحدهم الآخر مطلقا.

كان ذلك جانبًا من حديث أهل السرعات العالية لكن كما نرى في المقابل كان هناك من عرض تجربة اقامة ميني ماركت داخل مصنع للكرتون في إحدى مدن الصعيد معتبرًا أن ذلك عمل متعدد الفوائد حيث يتيح للعمال سرعة شراء احتياجاتهم في المحل في موقع عملهم والحفاظ على نقودهم من خطر الضياع أو السرقة؛ لأن تسديد مدفوعاتهم من الميني ماركت يتم بالخصم من مرتباتهم كما أن النظام يحقق نوعًا من الراحة لربات البيوت اللاتي لن يضطرون إلى النزول لشراء تلك المستلزمات بذلك يبين لنا الطيف الواسع جدًا ما بين السرعات التي يفكر بها المجتمع ويتعامل بها بل ويحلم بها.

منذ ثلاثين عامًا كان قد صدر كتاب اسمه «ثقافتان»  أثار ضجة واسعة وقتها حيث ذكر فيه مؤلفه انه لاحظ وجود تباعد شديد جدًا بين مجموعتين من أصدقائه أولئك الذين درسوا رياضيات وفيزياء وكيمياء، والذين درسوا علوم اجتماعية وإنسانية، بحيث كاد الحوار أن يتعذر بينهما؛ لأن كل فريق يمتلك لغته الخاصة بل وذهنيته وموضوعاته ونفسيته الخاصة.

الآن يمكنني أن أقول إننا بحاجة إلى كتاب لن يكون عنوانه «سرعتان» ولكن سرعات» لوصف حال مجتمعاتنا واثر السرعات على طبيعة الحوار الاجتماعي والعلاقات حيث الإيقاعات في فئات المجتمع المختلفة أصبحت جد متباينة ولذلك فإن على الدولة أي دولة أن تكون لديها رؤية واضحة لهذه القضية لضبط التوازن بين المسارات المختلفة دون كبح السرعات العالية واشرح النقطة الأخيرة فأقول إن أسهل الحلول عند دول كثيرة كان ولا يزال هو تعطيل اندفاع أصحاب السرعات العالية أو البزنس الخاص لهم حتى لا يحدث انشقاق مزعج في المجتمع من جراء حدة التباين بين القاع والقمة فيما يتعلق بالسرعات.الآن فإن الدولة الذكية هي التي تطلق العنان بضوابط رقابية سواء في المجال المالي أو المصرفي لأصحاب السرعات العالية لينطلقوا، وبصفة خاصة أولئك الذين يؤدي عملهم الى خلق مزيد من القيمة للاقتصاد الحقيقي والمجتمع، ومن جانب آخر تسعى بكل همة لتسريع إيقاع الفئات الأبطأ بتحسين فرصهم التعليمية ودخولهم وأساليب عملهم وفي المحصلة تغيير واقعهم جنبًا إلى جنب فان من الأهمية بمكان أن تكون العلاقة طيبة بين التسريع الشديد للتحويلات المالية في كافة إشكالها بما فيها المدفوعات للحكومة مع تطوير إداري ومؤسسي شامل ينسجم مع سرعة التحويلات إذ ليس من المعقول أن يتم في لحظة دفع تكلفة خدمة تقدمها الحكومة للمواطن بينما بقية إجراءات الخدمة (لو كانت الحصول على شهادة أو ترخيص مثلا) بنفس البطء والأداء البيروقراطي العقيم.

إدارة السرعات بتناغم هي إدارة للمستقبل.

 

[email protected]