الملف السياسي

تقويض العمل الدولي المشترك

23 أكتوبر 2017
23 أكتوبر 2017

د.أحمد سيد أحمد -

,, أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم(اليونسكو) نتيجة لما أسمته بتزايد متأخراتها المالية وحاجة المنظمة لإصلاح جذري واتخاذ مواقف عدائية من إسرائيل,,

.. واعتبرت واشنطن أن هذا الانسحاب سوف يدخل حيز التنفيذ في نهاية شهر ديسمبر المقبل، وأنها ستكتفي فقط بعضوية مراقب لدى اليونسكو، وهو ما يحمل تداعيات كبيرة على المنظمة وعلى دورها في مواجهة التحديات المتزايدة. والواقع أن العلاقة بين أمريكا واليونسكو مرت مراحل عديدة من الشد والجذب والتوتر خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد انسحبت الولايات المتحدة من اليونسكو عام 1985 خلال رئاسة السنغالي أحمد مختار امبو عندما دعت المنظمة لفتح حوار حول نزع السلاح ووقف برامج التسلح النووي، وهو ما اعتبرته واشنطن استخدام المنظمة للأغراض السياسية وانحرافها عن وظيفتها، ثم عادت أمريكا إلى المنظمة مرة أخرى عام 2003 بعد الغزو الأمريكي للعراق في عهد بوش الابن حيث كانت تسعى لحشد الدعم الدولي في مواجهة الإرهاب. لكن الولايات المتحدة جمدت عضويتها عمليا في المنظمة منذ عام 2011 بعد موافقة اليونسكو على قبول فلسطين كدولة عضو كامل بها، وقامت الإدارة الأمريكية بالتوقف عن سداد مساهماتها المالية في المنظمة والتي تصل لحوالي 70 مليون دولار تشكل خمس ميزانية اليونسكو ولم تشارك فى اجتماعاتها، مما اضطر المنظمة لتجميد حق الولايات المتحدة في التصويت فى عام 2013 نتيجة لتوقفها عن سداد التزاماتها المالية وعدم مشاركتها. ثم يمكن القول أن هناك عدة أسباب وراء هذه العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة واليونسكو وانسحابها منها وتتمثل في:

أولا: منهج الولايات المتحدة في التعامل مع المنظمات التابعة للأمم المتحدة والتي توجد فيها عضوية واسعة للدول الأعضاء فيها ومنها اليونسكو والتي غالبا ما تتساوى الولايات المتحدة فيها مع الدول الأخرى في التصويت حيث لكل دولة صوت واحد تجاه القرارات والسياسات التي تتخذها هذه المنظمات .

ونظرا لأن غالبية أعضاء هذه المنظمات من الدول النامية فمن الصعب على أمريكا أن تتحكم فيها أو في قراراتها خاصة عندما يتعلق الأمر بانحياز اليونسكو للحقوق المشروعة للشعوب، فعلى خلاف مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بحق الفيتو بما يمكنها من إبطال أي مشروع قرار دولي لإدانة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وهو ما حدث عشرات المرات، فإن المنظمات الأخرى مثل الجمعية العامة واليونسكو استطاعت نسبيا التحرك بمرونة خارج سيطرة الولايات المتحدة، حيث دافعت عن قضايا شعوب العالم الثالث ومنها الشعب الفلسطيني، ولذلك فإن قرارات المنظمة تجاه المسجد الاقصى والحرم الإبراهيمي يدخل في صميم عمل المنظمة بالحفاظ على التراث العالمي تجاه أية محاولات لهدمه أو التأثير عليه كما تفعل إسرائيل، ومن هنا جاء الانسحاب الأمريكي من اليونسكو بعد تجميد دفع التزاماتها المالية لأكثر من ست سنوات كنوع من العقاب ومحاولة التأثير على المنظمة للتجاوب مع السياسات الأمريكية وحليفتها.

ثانيا: نظرة الولايات المتحدة للمنظمات الدولية ولاتفاقات العمل المشترك الدولي، والذي أخذ يشكل اتجاها أمريكا منذ فترة وزاد بشكل كبير خلال إدارة الرئيس ترامب، حيث قللت واشنطن من فاعلية العمل الدولي تجاه القضايا والتحديات العالمية، فقبل الانسحاب من اليونسكو بشهرين، انسحبت أمريكا من اتفاقية التغير المناخي، كما أنها لم تنضم للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يعكس سعي الولايات المتحدة ومحاولة تكريس انفرادها بالنظام الدولي، والادعاء بأنها تساهم ماليا بشكل كبير في تلك المنظمات والاتفاقيات الدولية بدون عوائد كبيرة لها، والعمل بشكل انفرادي.

ثالثا: اعتبارات تتعلق بالتنافس الثقافي بين واشنطن من ناحية وأوروبا والعالم الثالث من ناحية أخرى، فالولايات المتحدة سعت منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي إلى تكريس العولمة وتحويلها إلى الأمركة عبر إشاعة وفرض الثقافة ونمط الحياة الأمريكية على العالم خاصة دول العالم الثالث عبر توظيف منظمة اليونسكو للترويج للثقافة الأمريكية، لكنها قوبلت برفض كبير من جانب أوروبا والعالم الثالث لنظرية الأحادية الثقافية وأهمية تحقيق التعايش بين الثقافات والحضارات المختلفة فى إطار التعددية والتنوع الثقافي العالمي بما يؤدي إلى ثراء الحضارة البشرية وهو الأمر الذي تقوم به اليونسكو في الحفاظ على تعددية الثقافات العالمية. وقد نجحت فرنسا خلال الانسحاب الامريكي الأول في الثمانينات والتسعينات في إقرار اللغة الفرنسية كلغة رسمية لليونسكو التي تتخذ من باريس مقرا لها، إضافة لإنشاء الاتحاد الأوروبي لجمعية سميت أوروميد بموجب معاهدة برشلونة والتي ضمت إضافة الى دول الاتحاد الأوروبي، عشر دول من جنوب البحر الابيض المتوسط، واستهدفت تدعيم الحوار والسلام والتعاون الاقتصادي والثقاقي، وحدد الاتحاد ميزانية أوروميد بـ 16 مليار يور، ولذلك فإن التنافس الثقافي الأمريكي الأوروبي أحد عوامل التوتر في العلاقة بين الولايات المتحدة واليونسكو وانسحابها منها. ويحمل الانسحاب الأمريكي من اليونسكو العديد من التداعيات السلبية:

أولها: هز مفهوم العمل الدولي المشترك عبر المنظمات الدولية ومنها منظمة اليونسكو التي تعنى بالثقافة والتربية والعلوم ونشر ثقافة الحوار والتسامح والتعايش المشترك بين الثقافات والحضارات العالمية المختلفة، فالولايات المتحدة ليست دولة صغيرة وإنما هي قوى كبرى تقف على رأس هرم النظام الدولي وأحد الأطراف الأساسية في تشكيل النظام القانوني الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ومنها الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأبرز الممولين لأنشطتها ولميزانياتها، ثم يمثل انسحابها ضربا للتعددية الدولية، كما قالت مديرة اليونسكو السابقة البلغارية إيرينا بوكوفا، إضافة إلى أنها تزيد من عزلة الولايات المتحدة دوليا .

ثانيها: التأثير السلبي على عمل منظمة اليونسكو نتيجة لتوقف التمويل الأمريكي، إضافة إلى تأثر المنظمة في أداء أدوارها ووظائفها في مجالات الثقافة والتربية والعلوم والحفاظ على التراث العالمي في ظل التحديات الكبيرة وغير المسبوقة التي تواجه اليونسكو وأبرزها انتشار الحروب والصراعات في العالم خاصة في منطقة الشرق الأوسط وتصاعد خطر الإرهاب، وتزايد ضحاياها خاصة من الأطفال المتسربين من التعليم والذين يزيد عددهم عن 13 مليون طفل وفقا لتقرير منظمة اليونيسيف نتيجة لصعوبات وصولهم إلى المدارس أو هروبهم كلاجئين في المخيمات، واستهداف المدارس في الحروب واتخاذ المليشيات المسلحة المباني التعليمية والجامعات والمداس كمقرات للحرب وتخزين الأسلحة، إضافة إلى استهداف المباني الأثرية التى تدخل ضمن التراث العالمي كما حدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، والتي تحتاج إلى أموال ضخمة لإعادة ترميم تلك المناطق وتوفير التعليم اللازم لأجيال كاملة من الأطفال حالت ظروف الحروب والصراعات دون تعليمهم، إضافة للحفاظ على التراث الإسلامي والمسيحي الفلسطيني في الأراضي المحتلة.

ثالثها: التأثير السلبي على دور منظمة اليونسكو في نشر ثقافة التسامح والتعايش بين الثقافات المتعددة، في ظل تصاعد ثقافة الكراهية وعدم التسامح وصعود ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب والذي برز بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة مع استهداف الإرهاب للدول الغربية، وتصاعد لهجة الكراهية ضد الأجانب خاصة العرب والمسلمين. ولا شك في أن الانسحاب الأمريكي من اليونسكو لاعتبارات سياسية وثقافية يمثل تحديا كبيرة أمام المنظمة الدولية يتطلب جهودا ضخمة للتغلب على التحديات والعقبات الكبيرة التي تواجهها خاصة تزايد عجز المنظمة المالي وارتفاع التحديات المرتبطة بالثقافة والعلوم والتربية وهو ما يشكل تحديا واضحا لدول المنظمة ولمديرتها الجديدة.