أفكار وآراء

كردستان العراق.. عدم الاعتراف العائق الأكبر للاستقلال

19 أغسطس 2017
19 أغسطس 2017

د. عبدالعاطي محمد -

وفقا لما أعلنه مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق، من المنتظر أن يستيقظ العراقيون صباح 25 سبتمبر المقبل على «حدث تاريخي مهم» هو إجراء استفتاء في الإقليم على استقلاله عن العراق. ومنذ هذا الإعلان توالت ردود الأفعال بين الإصرار على إجراء الاستفتاء وبين تأجيله، بما أضاف ملفا ساخنا جديدا لأزمات العراق الملتهبة بطبيعتها على مدى السنوات الأخيرة.

ولمطلب الاستقلال من جانب أكراد العراق تاريخ طويل يمتد إلى ظروف نشأة الدولة العراقية واستقلالها ذاته. وتعرض لتطورات عديدة بين الرفض والاحتواء والاستجابة المحدودة وثارت بشأنه معارك سياسية بل ودموية أحيانا ما بين السلطة المركزية في بغداد وبين الإقليم، كما شهد خلافات حادة حول من تكون له سلطة القرار بين الحزبين الكبيرين: الحزب الديمقراطي بقيادة مصطفى البرزاني، والحزب الاتحادي بقيادة جلال الطلباني، وامتدت الخلافات إلى من خلفوا كل منهما، إلى أن استقر الحال بين الحزبين وأصبح للإقليم حكومة واحدة يقودها الآن مسعود البرزاني. وتنقلت أحوال الإقليم بين أوضاع متغيرة منذ أن منح الحكم العراقي السابق تحت قيادة صدام حسين ومن جانب واحد بعض صلاحيات الحكم الذاتي للأكراد عام 1970 لم يقبلها الأكراد آنذاك، إلى أن سمح الفراغ السياسي والإداري الذي ترتب على أحداث حرب الخليج الثانية (1991) للأكراد بأن يصنعوا بأنفسهم معالم الحكم الذاتي واسع النطاق والذي يصل عمليا إلى كونه دولة مستقلة لا تنتظر سوى الاعتراف المحلي والدولي. ومع ذلك ظلت العلاقة قائمة بين الإقليم والحكم في بغداد دون إصرار على إعلان الاستقلال.

ولكن العلاقة بين الجانبين: الإقليم والمركز، كانت هشة للغاية طوال السنوات التي تلت سقوط نظام صدام حسين ، وخصوصا بعد أن دخلت البلاد في مرحلة خطيرة من الاقتتال الأهلي والتعرض للتهديدات المتكررة من جانب الجماعات الإرهابية، فضلا عن الخلافات الحادة بين القوى السياسية المختلفة التي تحكمت في مصير العراق السياسي. والتفاصيل في ذلك طويلة ومتعددة يضيق المكان بشرحها ولكنها معروفة في المجمل من جانب كل المعنيين بالشأن العراقي. وخلال هذه الظروف ظل مطلب الاستقلال من جانب الأكراد يفرض نفسه على الحياة السياسية في البلاد وسط ضغوط قوية من جانب الأكراد لتفعيله عمليا، خصوصا أنهم استطاعوا أن يؤسسوا لبناء دولة حديثة مستقرة سياسيا وأمنيا ومنتعشة اقتصاديا (برغم بعض الحوادث السلبية العارضة والتنافس بين الحزبين الكبيرين في الإقليم).

هشاشة العلاقة بين الإقليم والمركز من ناحية، وازدياد الثقة بالنفس بخصوص إمكانية إقامة دولة مستقلة من جانب أكراد العراق من ناحية أخرى، شجعت مسعود البرزاني رئيس الإقليم على أن يتحدث بصراحة ملخصا حال العلاقة السيئ طوال العقود الماضية، عندما قال مبررا الإعلان عن الاستفتاء وتحديد موعد له «إن الشراكة والتعايش السلمي الذي كان يشكل الهدف الرئيسي لكردستان مع العراق في المراحل التاريخية المتعاقبة التي مر بها الجانبان لم يتحقق، لذلك سيمضي شعب كردستان في طريقه وسيقرر مصيره».

وما يفهم من هذا الكلام المحدد والصريح من جانب البرزاني أن كردستان العراق تستبعد تماما الصيغة المعروفة عن الفيدرالية بوصفها واحدة من الحلول التي اعتادت الدول المنقسمة أو المجزأة لأسباب لغوية أو عرقية اللجوء إليها كمخرج للوفاء بمتطلبات من يريدون الاستقلال الذاتي ومتطلبات الحفاظ على الدولة الاتحادية. فالمعروف أن الفيدرالية نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تكامل بدلا من علاقات تبعية قائمة، مع اعتراف الكل بوجود حكومة مركزية واحدة إلى جانب حكومة الطرف الراغب في التصرف الذاتي في شؤونه، وكذلك دستور واحد يحدد صلاحيات كل من الطرفين وكيفية توزيع الثروة وتحديد السلطات المدنية المختلفة، ووجود مرجعية أعلى للحكم في تنازع الاختصاصات هي المحكمة الاتحادية أو الفيدرالية. والأهم من كل هذه الترتيبات توافر الثقة المتبادلة بين الطرفين لأنها وحدها في النهاية التي تضمن قبول الطرفين بالصيغة الفيدرالية، وإن لم تتوافر فلا قيمة لكل الترتيبات المشار إليها.

خطورة كلام البرزاني تكمن في أنه أصبح متيقنا أو هكذا معتقدا بأن هذه المقومات لم تعد قائمة بعد كل هذا التاريخ الطويل من المفاوضات، بل ومن الشراكة في الحكم، وواضح أن الافتقاد إلى الثقة من جانب أكراد العراق تجاه المركز في بغداد هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت الرجل ينظر للاستفتاء على أن الهدف منه هو الانفصال التام عن بغداد أو هكذا يريد من تقرير المصير.

وبعيدا عن تقويم مدى صواب هذا التصور ولا قوة الحجج التي يدفع بها أكراد العراق للاستقلال، فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه مثل هذه الاستفتاءات لتقرير المصير بالانفصال تكمن في عدم توافر الاعتراف بهذا العمل سواء من جانب السلطة المركزية أو من جانب المجتمع الدولي. ودون تحقق هذا الاعتراف المزدوج تنعدم القيمة الحقيقية للاستفتاء. هو شرط لازم جدا للقبول بالتغيير الذي يحدثه الاستفتاء. ولنا من التجارب المماثلة عبرة وعظة، فجنوب السودان على سبيل المثال لم يتمكن من الاستقلال إلا بعد حصول موافقة حكومة الخرطوم على تطبيق حق تقرير المصير، وقبولها بنتائج الاستفتاء لاحقا، وأيضا موافقة الدول الغربية الكبرى على الإجراء والقبول بنتائجه لاحقا أيضا.

مع أول ردود الفعل رفضت الحكومة المركزية في بغداد المطلب الكردي، كما أن القوى السياسية النافذة في العراق معظمها مال إلى تأجيل إجراء الاستفتاء مع أنها تعترف به من حيث المبدأ، والمعنى أنه لم يتوافر مع ردود الفعل الأولى غطاء سياسي عراقي لانفصال أكراد العراق عن المركز. وأما إقليميا ودوليا فلم تتوافر موافقة على هذه الخطوة.

السلطة المركزية في بغداد رأت أن الخطوة غير ممكنة دستوريا في الوضع الراهن، ولا يوجد توافق عام على إجرائها واعتبرتها مساسا بوحدة وسيادة العراق ،فضلا عما تثيره من مشكلات عديدة فيما يتعلق بتوزيع الثروة مما سيتسبب في تعميق حالة عدم الاستقرار القائمة، وإذا أضيفت لذلك الخلافات حول كركوك بما تحتويه من ثروات وما تشكله من تنوع عرقي ولغوي، فإن كل ذلك يضع مستقبل العراق في مقدرات المجهول، بينما تسعى السلطة القائمة إلى استعادة الدولة ومقدراتها. ولا يمكن إغفال تأثير قوى سياسية عراقية المستمر لإجهاض أية محاولة لترميم العلاقة بين الإقليم والمركز.

والدول الإقليمية المعنية لم تقبل يوما أن يكون لأكراد العراق دولتهم المستقلة. والمعروف أن الأكراد عموما (أكثر من 30 مليون كردي في العالم) يتوزع الجانب الأكبر منهم في العراق وتركيا وإيران وسوريا، والباقي يعيش مرحلة الشتات في دول مثل أرمينيا وجورجيا وأذربيجان وروسيا وأوروبا الغربية وأمريكا أيضا. ولا تريد الدول الإقليمية المحيطة استقلالا لكردستان العراق حتى لا يشجع ذلك الأكراد في الدول الأخرى على المطالبة بنفس الهدف. والملفت أن أكراد العراق يدركون ذلك جيدا ويعرفون موقف هذه الدول الإقليمية منذ زمن طويل، ومع ذلك اتجهوا للتصعيد في هذا المطلب اعتقادا منهم أن الظروف الراهنة بعد كل ما جرى في العراق وسوريا والتصدع القائم في العلاقات بين الدول الكبرى الغربية النافذة، ربما تفرض مطلبهم بحكم الواقع، إلا أن ذلك حتى لو كان صحيحا فإن عقبة الاعتراف إقليميا ودوليا تظل قيدا قويا على إتمام الفكرة.

الولايات المتحدة من جانبها لم تعترض على مبدأ الاستفتاء ولكنها طلبت تأجيله (بطعم الاستبعاد في واقع الأمر). ولكي تبقي الباب مفتوحا طلبت من برزاني الاستمرار في التفاوض مع الحكومة في بغداد حول الأمور السياسية .وبدا البرزاني متفهما للموقف الأمريكي عندما رد على دعوة تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي هذه بالتساؤل حول الضمانات التي من الممكن تقديمها لشعب كردستان مقابل تأجيله للاستفتاء وكذلك ما هي البدائل التي ستحل محل تقرير المصير. لقد قبل الأكراد باستمرار التفاوض، ولكنهم أصروا على إجراء الاستفتاء.

وهنا من الوارد رغبة البرزاني في التجاوب مع التوجه الأمريكي بخصوص التفاوض الذي هو في نفس الوقت مريح للحكومة المركزية في بغداد، ولكنه ينتظر الثمن الذي يمكن أن يحصل عليه عبر المفاوضات مع بغداد برعاية أمريكية. والمخرج هو في حل بعض القضايا العالقة التي عكرت أجواء الشراكة القديمة ودفعت كردستان إلى رفع راية الاستقلال، ومنها وجود البيشمركة الكردية على بعض الأراضي العراقية والإقرار بسيادة الأكراد على المناطق التي ساهمت البيشمركة أساسا في تحريرها من «داعش»، وكذلك الوفاء من جانب الحكومة المركزية بالتزاماتها المالية تجاه الإقليم، والاتفاق على مصير كركوك بين الجانبين. وحتى لو تعطلت المفاوضات وتم الاستفتاء الذي سيعد مجرد خطوة لبناء دولة مستقلة يتم التعامل بها كورقة ضغط، فإن صعوبة توفير الاعتراف المحلي والإقليمي والدولي تبقى العقبة الرئيسية.