روضة الصائم

مراجعات كتب - «شرق فنان» و«غرب عالم» .. وبينهما شرق أوسطٍ عجيب !

30 مايو 2017
30 مايو 2017

عبدالرحمن بن سعيد المسكري -

لقد أومأ د. جلال أمين - الذي قدم توطئة ضافية وناقدة للكتاب - إلى مرجعية الكتاب الفلسفية، على اعتبار أن زكي نجيب محمود كان من أبرز المناوئين عن أفكار الفلسفة الوضعية في العالم العربي، إذ إن من بين الأفكار الرئيسة في الفلسفة الوضعية التمييز بين أربعة أنواع من المقولات، فالأول: مقولات تتكلم عن ظواهر يمكن التحقق منها بالملاحظة والتجربة، والثاني: مقولات صحيحة بالضرورة (البدهية)، والثالث: مقولات تعبر عن عواطف أو مواقف أخلاقية وجمالية، والأخير: مقولات لا يمكن الجزم بصحتها أو خطئها (الميتافيزيقا). ووفقا لهذا التمييز بين أنواع المقولات الأربع، فإن الكتاب يأتي في إطار التمييز بين النوع الأول «نظرة العالم» وبين النوع الثالث «موقف الفنان». ومع أن زكي نجيب محمود يعقد هذه التفرقة بين الموقفين ليس على أساس المفاضلة بينهما؛ إلا أنه يقول إنه لو كان يُفاضل بين الموقفين لما تردد في اختيار أن يحيا حياة الفنان، الذي يعبر عمّا في نفسه ويدير نشاطه حول ذاته، وما تنطوي عليه، لكن الأمر ليس أمر مفاضلة؛ بل هو تمييز بين نوعين من المعرفة.

استغرق الكتاب 17 فصلًا، فراح زكي نجيب محمود يتلمس «الشرقي الفنان» في لغاته وآدابه وفنونه، وعقائده وأسفاره الدينية وابتهالاته الإلهية؛ ففي عالم الأفكار والمعتقدات الدينية، يذهب إلى أن مما يميز ثقافة الشرقي الروح السارية في أسفاره الدينية، فمنها انبثقت نظرته إلى الحياة والآخرة، ولذلك يقول من يريد معرفة الشرق فعليه أن يتمثل هذه الروح التي انطبعت في نظم حياته الاجتماعية، وفنونه وآدابه.

وفي هذا السياق، يشير المؤلف إلى «فكرة الخلود» وتمثلاتها في التراث الديني المصري القديم، كما يطيل الحديث عن « وحدة الوجود» وفي ذلك يقول: «على أن المصري القديم قد بلغ من نظرته الروحانية الفنية ذروتها في شخص أخناتون، الذي - ربما يكون أول أنسان في الوجود أدرك وحدانية الوجود، أدركها بالبصيرة لا بالبصر، أدركها بخفقة الوجدان لا بالقياس العقلي، أدركها بطويته لا من خارج، أدركها بالروح بالبدن، أدركها إدراك الفنان لا إدراك العالم».

ثم ينتقل إلى الهند، فيجد وحدة الوجود ومذهب تناسخ الأرواح «بادية في كل كلمة ينطق بها الهندي، وفي كل نفس يتنفسه» وراح يقرأ «أسفار الفيدا» و«يوبانشاد» وحكمة الهند وآدابها، فوجد نظرة الفنان التي تجاوز السطوح الظاهرة إلى الكوامن الخفية، ولئن كانت الأشياء في ظاهرها تدل على التعدد؛ فحقيقتها الخبيئة وحدانية أدركها الفنان ببصيرته النافذة.

ويذهب بعد ذلك إلى أن «روح الثقافة الهندية بأسرها هي في دمج الفرد في الكون دمجا يزيل الفواصل التي تميز الفرد من محيطه»، وأن نظرة الفنان التي نظر بها الهندي إلى نفسه وإلى الوجود هي نظرة إن وقف صاحبها عند جزئية من الأشياء فما ذلك إلا لينسجها خيطا رفيعا في رقعة الكون الواحد الفسيح.

ويقــــــــــــرر أن ديانات الشــــــرق الأقصى كلها تلتقي «في وجهة نظر واحدة، مؤداها أن للكون روحا أزلية أبدية، تنبثق منها هذه الكائنات الأفراد لتقيم على السطح الظاهر حينا، ثم تعود فتندمج -كما كانت- في ذلك الروح الواحد الخالد».