أفكار وآراء

الانقسام أصبح ظاهرة عالمية.. فرنسا النموذج الأحدث

27 مايو 2017
27 مايو 2017

د.عبد العاطى محمد -

مع أن الانتخابات الفرنسية قد مرت بسلام، بعد أن أحاطت بها المخاوف من أن تكون مناسبة جديدة تعزز التوجهات اليمينية المتطرفة و الشعبوية التي تصاعد وجودها وتأثيرها داخل عديد الدول الأوروبية، مما يضع مستقبل الاتحاد الأوروبي على المحك، إلا أنها كشفت عن حقيقة أصبح من الصعب إغفالها، وهي أن الانقسام السياسي والاجتماعي هو العنوان الأبرز اليوم، ليس في الولايات المتحدة وحدها، ولا في منطقتنا العربية أيضا، بل داخل أعرق المجتمعات الأوروبية، مما يعني أنه أصبح ظاهرة عالمية.

لقد نجح الشاب إيمانويل ماكرون (40 عاما) في أن يصل إلى قصر الإليزيه بعد أن فاز في الانتخابات بنسبة 66% على منافسته مارلين لوبان التي حصلت فقط على 34%. ولكن هذه النتيجة لم تقل لنا كل ملابسات الانتخابات، وهي الملابسات التي تؤكد لنا أن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي قد ضرب فرنسا مثلما ضرب كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا من قبل. ففي الأصل تقدم لهذه الانتخابات 11مرشحا يمثلون أحزابا وتيارات مختلفة تم اختصارهم إلى 5 مرشحين كبار ، كان من بينهم ماكرون بالطبع الذي طرح نفسه وسطا معتدلا لا يمثل حزبا، بل مجرد حركة وليدة جدا (إلى الأمام)، بينما كان هناك مرشحون بارزون ومن كبار السن يمثلون يمين الوسط، واليسار ، واليمين المتطرف ممثلا تحديدا في الجبهة الوطنية التي تتزعمها مارلين لوبان.

واحتار الفرنسيون في اختيار أي منهم وهم يتابعون المناظرة التي جرت بينهم. وعند انتخابات المرحلة الأولى وقعت أولى المفاجآت التي أماطت اللثام عن الانشقاق والانقسام الذي دب في صفوف الفرنسيين، حيث أصبحت المنافسة بين اثنين فقط هما ماكرون ومارلين لوبان وخرج من السباق عتاة السياسيين القدامى أو الأحزاب التقليدية (الجمهورية والاشتراكية). ثم فاز ماكرون بالرئاسة في المرحلة الثانية، ولكن نسبة كبيرة من الأصوات التي حصل عليها هي تلك التي كانت ستذهب إلى مرشحي الأحزاب التقليدية الخاسرين للجولة الأولى والذين حفزوا أنصارهم على التصويت لماكرون حتى لا تنجح لوبان.

ومن جهة أخرى وصلت نسبة الممتنعين عن التصويت لأكثر من 25% وهي مؤشر يعبر عن الاحتجاج من جانب ربع من لهم حق التصويت على المشهد بأكمله. ومن جهة ثالثة فإن نسبة الـ 34% التي حصلت عليها لوبان تعني أن هناك نحو 11 مليون فرنسي (من 43 مليون لهم حق الانتخاب) أعطوا أصواتهم لها، وهو الأمر الذي كان مدعاة للبهجة بالنسبة لها، لأنه مؤشر على أن أنصارها يتزايدون حتى أنها قالت معلقة على النتيجة أن حزبها ، الجبهة الوطنية، سيصبح بذلك أكبر قوى المعارضة للحكومة الجديدة وحيث ان البلاد مقبلة على انتخابات تشريعية فإنها حثت أنصارها على التوحد وبذل المزيد من الجهد لتحقيق نسبة مؤثرة للمعارضة في البرلمان. وبالمقابل بات على ماكرون أن يواجه التحدي الصعب وهو ضرورة أن يوفر لنفسه أغلبية مؤثرة في البرلمان بينما ليس لديه حزب يضمن له ذلك وإنما مجرد حركة يقودها نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتعين عليه أن يدخل في تحالفات عديدة مع خصومه ومنافسيه الأوائل من الجمهوريين واليساريين ويمين الوسط، وهو أمر يدعوه إلى القلق وليس الاطمئنان لأن طبيعة التحالفات غالبا ما تكون هشة ومتغيرة وضاغطة بوجه عام على منصب رئيس الحكومة.

ومن جهة رابعة أحدثت نتائج الانتخابات هزة سياسية قوية داخل الأحزاب التقليدية التي راحت تعمل على مراجعة أوضاعها من الداخل لتجيب عن التساؤلات حول أسباب الخسارة، هل المشكلة في القيادات ثم يتعين البحث عن وجوه جديدة أم في الهياكل الداخلية التي يتعين تعديلها لكي تستعيد هذه الأحزاب مكانتها في الشارع السياسي؟.

ومن جهة خامسة فإن التطور الإيجابي الأهم الذي أفرزته هذه الانتخابات هو استمرار فرنسا في الاتحاد الأوروبي، ثم صد التحركات التي بدأت تصب في اتجاه تفكيك هذا الكيان لصالح العودة إلى الانغلاق على الذات والترويج للوطنية المتطرفة التي تدعو لها لوبان وأمثالها، وما يشمله هذا من العداء للمهاجرين وتعزيز الإسلاموفوبيا. وكثير من القلق الذي ساد قطاعا كبيرا من الفرنسيين خلال الانتخابات كان مرده الخوف من فوز لوبان التي لن تتردد في تكرار ما فعلته بريطانيا عندما انسحبت من الاتحاد الأوروبي. ولكن وبرغم تحقق هذا الإنجاز، إلا أن وجود نسبة لا يستهان بها أعطت أصواتها للوبان (11 مليون فرنسي) يعني أن قطاعا مؤثرا من الفرنسيين لم يعد راغبا في الاستمرار في هذا الكيان، وأنه إن لم يتمكن ماكرون من توفير أغلبية برلمانية في الانتخابات التشريعية، فإن الشارع المعارض لن يهدأ خصوصا أن لوبان توعدت بذلك.

ما جرى في فرنسا لا يمكن فصله عن رياح الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي هبت على الولايات المتحدة وجاءت بقيادة يمينية حادة المزاج مثل دونالد ترامب، وعلى بريطانيا حيث دفعت الأغلبية في شعبها للتصويت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ففي الحالات الثلاث هناك مشاعر لدى قطاع كبير من الناس بأن حياتهم المعيشية باتت أسوأ من ذي قبل، أي قبل أن يخضعوا لمتطلبات العولمة وبأن الانفتاح على الخارج أضر بمصالحهم وأفاد غيرهم من مواطني الدول الأخرى، فضلا عن الشعور بتردي المكانة الوطنية أمام صعود للصين وروسيا والنمور الصاعدة كالهند وغيرها من دول جنوب شرق أسيا. كما أن الأحزاب الكبيرة في الدول الثلاث لم تعد قادرة على التحكم في صياغة مواقف الناس من الأحداث والمستجدات، ولا أيضا الإعلام المكتوب والمرئي وإنما هناك التأثير الأقوى الجديد المتمثل في الحركات السياسية التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي وتتجه بالدرجة الأولى للقطاعات المتضررة من الأوضاع القائمة سواء كانوا من الشباب أو الكبار. القاعدة الاجتماعية المساندة للأحزاب وخصوصا القديمة منها واضحة المعالم وثابتة المواقف، بينما القاعدة الاجتماعية للحركات هلامية ومتقلبة ولكنها نشطة وتستجيب سريع لدعاوى التغيير على عكس الأولى التي هي محافظة بطبيعتها لا تقبل التغيير وبطيئة في الاستجابة لدعوات الاحتجاج والحشد.

هكذا قلب ماكرون المائدة على خصومه مستعينا بآلية مختلفة هي الحركة السياسية وليس الحزب (حركة إلى الأمام) والتي شكلها منذ عام فقط ولم تتطرق إليها وسائل الإعلام بالنحو الكافي وربما تجاهلتها اعتقادا بعدم جدواها. ولكن أحدا لم يقدر بعد تأثير الحركات السياسية ولم يقف عند تحديد جمهورها. إلا أن الحقيقة التي تقرع بها هذه الحركات الجميع من المعنيين، هي أن هناك تغييرا سياسيا واجتماعيا يحدث وتظهر نتائجه فقط عند ساعة الجد. كما أن دونالد ترامب خاصم وسائل الإعلام المعروفة وراح يتواصل مع الناس كل لحظة عبر «تويتر»! وليست هذه الآلية ببعيدة عن طبيعة نشاط الحركات السياسية والأدوات التي تستخدمها للحشد والتأثير في الرأي العام.

لا يمكن بالطبع إغفال تأثير ما يجري في المنطقة العربية أو الشرق الأوسط عموما على المشهد المتغير بكل مفاجآته اليومية في أوروبا والولايات المتحدة، فالمؤكد أن ملفات المنطقة الساخنة تلقي بظلالها وتشكل أحد محددات اتجاهات التغيير في الغرب خصوصا ما يتعلق بتأثير الإرهاب، كما لا يمكن إغفال تأثير الصراع السافر القائم بين الولايات المتحدة والغرب عموما وبين روسيا، وشلل المنظمة الدولية عن القيام بدورها في حل الأزمات في المنطقة نتيجة غياب الاتفاق أو التوافق بين هذه القطبين.

لا يمكن إغفال هذا وذاك أو بالأحرى إغفال انتقال عدوى الانقسام الذي أصبح من الأقدار السيئة للمنطقة إلى الساحة السياسية والاجتماعية الغربية. ولكن ما هو جلي للعيان أن الانقسام الذي نتحدث عنه له عوامله القائمة في البنية السياسية والاجتماعية الغربية المستقلة عما يجري هنا من انقسامات، وهذا هو ما يدعو إلى النظر لمشهد الانقسام لا على أنه أمر محلي أو مناطقي، بل على أنه ظاهرة عالمية يتشارك في همها الجميع كل وفق ظروفه وقدراته الذاتية على التصدي له حفاظا بالدرجة الأولى على المقدرات الوطنية للشعوب. وقد حان الوقت لأن يراجع السياسيون ومراكز الأبحاث وأصحاب القرار في الغرب عموما المقولات القديمة بأنه صانع الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي لا تشوبه شائبة ولا يهزه خلاف هنا أو هناك وإنما أصبح يعاني منه مثل غيره من الأمم، وربما تكون المراجعة بداية الخلاص للجميع من هذه الظاهرة إذا ما احتكموا فيما بينهم شرقا وغربا، للحوار والتوافق.