أفكار وآراء

مطالب اقتصادية

05 أبريل 2017
05 أبريل 2017

مصباح قطب -

يشكل المهنيون في أي بلد قلب طبقتها المتوسطة. نتحدث عن الصحفيين والمحامين والأطباء والصيادلة والفنانين والزراعيين والمهندسين والتطبيقيين والمعلمين والمحاسبين الخ. ويشكل هؤلاء عادة أيضا قاعدة عمل عام تسير على مستويين الأول: هو الانخراط في النقابات العامة التي تمثلهم والتي من حقها دستوريا وقانونيا مناقشة أي قوانين تخص أهل المهنة قبل إقرارها من المجالس النيابية أو الشورية ، كما أن لكل نقابة دورا في المساءلة التأديبية لأعضائها وزيادة قدراتهم المهنية وتحسين شروط عملهم، المستوى الثاني هو مستوى الانخراط في الأحزاب أو المجموعات والعمليات السياسية المختلفة. ويتوقف توجه الحياة السياسية برمته في أي بلد غالبا على المزاج السائد في أوساط طبقته المتوسطة. لا نبالغ في دور المهنيين ، ولا نقلل في نفس الوقت من أهمية بقية الطبقات الاجتماعية، فالعمال والحرفيون لهم تأثير بالغ وكذا للطبقة العلية. بيد أن الواقع في أي مجتمع حديث يشير إلى أن الطبقة المتوسطة هي جسر التواصل أولا بين الفئات الاجتماعية ورمانة القبان في التوازن الاجتماعي ، ومن الناحية العملية فالمفترض أنها تشكل النسبة الأكبر من الناخبين في أي استحقاقات عامة أو هكذا يفترض حيث المشاهد أن أطياف واسعة من هذه الطبقة تتكاسل عن أداء الواجب في الانتخابات العامة وان كان اهتمامها يصبح اكثر بالانتخابات النقابية. ويوجد سبب جوهري يفسر الحالة السابقة . مثال مصري : منذ الستينات جعلت الدولة للنقابات العامة دورا يشبه دور الأجهزة التنفيذية في موضوع حاكم وهو من يصبح عضوا بها وعدم جواز ممارسة أي مهنة حتى الموسيقى والغناء دون المرور على النقابة والحصول على عضويتها أو رخصة منها، وفي المقابل تحولت النقابة إلى جزء من الدولة وبهذا الشكل رتبت الدولة من خلال الموازنة العامة إعانات مختلفة الأشكال للنقابات العامة لزيادة دخول أعضائها أو معاشاتهم مباشرة مثل (بدل التفرغ للمهندسين وبدل المراجع والتكنولوجيا للصحفيين الخ) وعلى ذلك يزيد إقبال المهنيين على الترشيح والتصويت في نقاباتهم عما سواها، وأصبح من المعتاد أن ترى جدولا في الموازنة العامة للدولة يتضمن هذه الإعانات وتكلفتها علي الخزانة العامة. ومنذ أوائل التسعينات بدأ أبناء الطبقة المتوسطة أي أعضاء النقابات هؤلاء يلجأون إلى تعليم أبنائهم في المدارس الخاصة يأسا من إصلاح التعليم العام، كما بدأوا يعالجون أنفسهم وأسرهم في المستشفيات الخاصة أو عبر نظم طبية مدعومة من نقاباتهم وبالتالي بدأت مطالبهم من الدولة لزيادة الإعانات والبدلات تتصاعد وكان منطقهم أننا ندبر مسكنا وتعليما وعلاجا لأنفسنا ولا نحصل على شيء من الخدمات العامة المجانية أو المدعومة أو لا نحصل منها إلا على القليل وبالتالي من واجب الدولة تعويضنا عما كان يجب أن نحصل عليه ولم نحصل ، وبدورها تجاوبت الدولة إلى حد ما مع تلك المطالب ماليا وحين تعوضها الأموال كانت تعوض ذلك بمنح أراض للنقابات بأسعار رمزية ليقيموا عليها مساكن أو مرافق سكنية أو خدمية مثل النوادي والمصايف وشيئا فشيئا ومع تصاعد المطالب المهنية وبالتوازي مع زيادة العجز في الموازنة العامة بما يعني تناقص قدرة الدولة على التجاوب بدأت الحكومة بدورها تفتش عمالها لدى المهنيين وبدأنا نسمع في الثلاث سنوات الأخيرة عن أن ما يدفعه المهنيون كافة من ضرائب ضئيل جدا ولا يتناسب مع مستوى دخولهم وأنشطتهم ولا شك أن جزءا من ذلك يعود الى الجهاز الضريبي نفسه ويعود الجزء الآخر الى عوامل مثل إهمال المهنيين إقامة سجلات ضريبية وتنظيم معاملاتهم بصورة رسمية يسهل الحساب عليها أو حتى التهرب العمدي أحيانا ولذلك حينما جاءت لحظة الحقيقة وخرج قانون الضريبة على القيمة المضافة الى النور منذ حوالي سبعة أشهر كبديل عن ضريبة المبيعات وتم الإعلان صراحة عن وجوب التزام كافة المهنيين به بدأت الاعتراضات تتوالى من المحامين والفنانين والتجاريين الخ ، وبعد حوار شاق بين الحكومة ممثلة في وزارة المالية وبين ممثلي نقابات مهنية مختلفة تم وضع آلية تقبل التعميم لتبسيط أداء المهنيين لهذه الضريبة حيث تعقيد الإجراءات هو بنسبة ليست قليلة أحد أسباب هروب الكثيرين من سداد الضرائب. كانت البداية ببروتوكول تعاون بين نقابة المحامين ومصلحة الضرائب وفضلا عن التبسيط تم ابتكار أسلوب المبلغ القطعي في بعض مراحل التقاضي بل وتم جعل هذا المبلغ صغيرا بحيث لا يمكن للمحامين أن يعترضوا عليه ولقي الأمر تجاوبا وان بقيت فئات مهنية - وهذه طبيعة الأمور - ما زالت تتطالب بالإعفاء من الضريبة . الكل يعرف أن القيمة المضافة هي ضريبة يتحملها المستهلك النهائي للسلعة أو الخدمة أي انه لا يتحملها المهني أو أي مؤدي لخدمة أو منتج أو بائع لسلعة فالمكلف بسداد الضريبة هنا هو وسيط ، فلماذا يخشاها بعض المهنيين.

الجواب بسيط هو أن سداد ضريبة القيمة المضافة سيجعل من السهل على مصلحة الضرائب معرفة وعاء ضريبة الدخل بالنسبة للمهني أو المنتج أو التاجر. إذا ستحدث مقاومات هنا أو هناك من الطبقة المتوسطة ومن غير الطبقة المتوسطة للإصلاح الضريبي الذي يهدف كما تقول وزارة المالية المصرية إلى أن يدفع كل مواطن ما يجب أن يدفعه حيث إن زيادة الإيرادات الضريبية (وغير الضريبية ) للدولة  المفتاح الوحيد لزيادة الإنفاق على الخدمات العامة كالصحة والتعليم والنقل وغيرها ورفع مستواها، لذلك فإن التوصيف الصحيح للوضع الراهن انه مرحلة تحول من شيوع تجنب دفع الضرائب أو إهماله أو التهرب منه أو التحايل عليه الى مرحلة الالتزام الضريبي الطوعي والقانوني بالمعنى الذي يؤدي الى بناء مواطنة حقيقية تلتزم معها الدولة بواجباتها إزاء مواطنيها وبصفة خاصة محدودو الدخل منهم ويؤدي المواطنون ما عليهم باعتبارهم شركاء في الوطن وليسوا جزرا منعزلة داخله. بكل هذه الخلفية تابعت حوارات نقيب المهن التمثيلية مع رئيس البرلمان وأعضاء به ومع وسائل الإعلام حول تضررهم أيضا من تكليفهم بعمل سجلات ضريبية حتى يقوموا بدورهم كمكلفين بتوريد الضريبة عندما يقتضي الأمر ذلك وكما قلت فإن الرد الحكومي جاءهم واضحا أن الضريبة ليست عقوبة بل واجب وشرف والتهرب منها جريمة مخلة بالشرف وواجب الوزارة تقديم كل ما يمكن من تسهيلات لهم ولغيرهم لتيسير تحصيل هذه الضريبة وغيرها . وبهذه الخلفية أيضا رحت أتابع الشق الاقتصادي في مطالب الصحفيين المصريين خلال انتخابات التجديد النصفي لمجلس نقابتهم واختيار نقيب الصحفيين الجديد الأسبوع قبل الماضي وقد رأيت في برامجهم ميلا جديدا بازغا بوجوب أن تبذل النقابة جهدا أوسع في سبيل زيادة مواردها حتى لا تظل معتمدة على الدولة وإعاناتها أو بدلاتها وهذا أمر طيب ويدعم بالفعل مبدأ استقلالية نقابة الصحفيين فالاستقلال المالي أساس جيد للاستقلال المهني وان كان هذا لا يمنع من وجود أصوات ليست بالقليلة ما زالت تدعو الى زيادة بدل النقابة الذي أشرنا إليه نظرا لارتفاع التضخم، الى جانب ذلك رأينا أصواتا شابة تطالب بالعودة الى الأصل وهو عمل إصلاح جذري وشامل للمؤسسات الصحفية العامة والخاصة حتي تتحسن اقتصاديتها وبالتالي يمكنها تحسين دخول الصحفيين والخدمات التي تقدمها لهم. جدل مثير ومهم عن كيفية تحديد الأدوار بدقة بين الحكومة والنقابات المهنية والمؤسسات الصحفية العامة والخاصة والكيانات المعنية بالأداء المهني ، ومن المؤكد أن نتائجه ودروسه وخبراته ستكون مفيدة داخل مصر وخارجها.

[email protected]