أفكار وآراء

إسرائيل .. الهروب إلى الأمام بخلط الأوراق

04 مارس 2017
04 مارس 2017

د.عبد العاطى محمد -

في ظل التحولات الكبرى التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط داخليا وإقليميا، يبدو أن الولايات المتحدة بكل قواها الحية لم تعد قادرة على قراءة حاضر المنطقة جيدا، ولا على استشراف مستقبلها، والشيء نفسه ينطبق على إسرائيل. ومع هكذا وضع لم يعد أمام كل منهما سوى خلط الأوراق في محاولة للوقوف على ما يجب القيام به من جانب كل منهما للسيطرة على أحداث الحاضر شديدة التغير والتقلب والهيمنة، وعلى صياغة مستقبل المنطقة الذي أضحى عسيرا على التنبؤ بملامحه.

قبل 6 سنوات عندما اجتاحت موجات التغيير عدة دول عربية كان الموقف مختلفا تماما حيث الثقة في أن بناء الشرق الأوسط الجديد بات قاب قوسين أو أدنى، وأن ما عكفت مراكز البحوث الأمريكية والإسرائيلية على تقديمه لصانع ومتخذ القرار من تحليلات وسيناريوهات لمسار التطورات الشرق أوسطية وما ستؤول إليه صحيحا. ولكن النتائج التي ترتبت على موجات التغيير وما صاحب ذلك من تداعيات، جاءت على عكس ما توقعه السياسيون والخبراء بل والإعلام الغربي والإسرائيلي، ليس فقط لأن الإرهاب ازداد انتشارا وقوة وضرب في كل مكان بما فيه العواصم الغربية، ولا لظهور أشد نسخ الإرهاب خطورة وهو تنظيم «داعش» (2014)، وإنما أيضا لأن الدول التي ضربتها رياح التغيير تحولت إلى مصادر للتهديد الأمني لم يكن في حسبان كل هؤلاء، وصاحب ذلك انقلاب في أشكال التحالفات الإقليمية القديمة والجديدة أيضا، فباتت خريطة الأوضاع السياسية بالغة التعقيد. وإذا أضفنا لذلك انفجار ما يمكن تسميته بالانتفاضات القومية والعرقية والمذهبية لازدادت صور الحاضر تعقيدا، وبالتالي أصبحت رؤية المستقبل عسيرة إلى حد كبير، وذلك من حيث النظرة الشاملة. وعليه لم يستطع صانع ومتخذ القرار سواء في الولايات المتحدة أو في إسرائيل الإمساك بخيوط اللعبة كما كان يحدث في الماضي. وبينما بات عصيا عليه الاعتراف بخطأ التقدير بحكم أنه عاش عقودا طويلة على تصور محدد للأوضاع، وجد نفسه في مأزق العجز عن طرح رؤية جديدة تتلاءم مع المستجدات الكبرى.

في ضوء معضلة كهذه ما بين عدم التراجع عن الخطأ في قراءة المسار وبين عدم القدرة عن بناء رؤية جديدة للمستقبل، لم يعد أمام صاحب القرار سواء في الولايات المتحدة أو إسرائيل، سوى إعادة خلط الأوراق بالكامل في جميع الملفات التي باتت تقلق مضاجعه كل يوم لعل ذلك يسمح له باستعادة توازنه، بل بالأحرى استعادة قدرته على السيطرة على تداعيات الحاضر التي لا تتوقف مفاجأتها ثم تهيئة البيئة السياسية التي تمنحه القدرة على احتكار صناعة مستقبل المنطقة آخذا في الاعتبار كل نتائج التحولات السياسية التي ضربت أعماق المنطقة بأسرها.

لدينا مناسبتان توقف الرأي العام العربي والإقليمي عندهما كثيرا ألقيتا الضوء على حالة التخبط والارتباك التي يعيشها صانع ومتخذ القرار في الوقت الراهن وإن كانتا تمثلان ذروة صدمة الحسابات الخاطئة التي تعيشها كل من إسرائيل والولايات المتحدة على مدى السنوات الست الماضية، علما أنهما مناسبتان من صنعهما معا. الأولى تتعلق بما جرى تسريبه من جانب صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عن اللقاء الرباعي الذي عقد في فبراير 2016 بالعقبة وضم ملك الأردن والرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الخارجية الأمريكية آنذاك. والثاني اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي الجديد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بواشنطن في أول زيارة للأخير بعد تولى الأول منصبه.

ولكن ما غفل عنه هو التقييم الحقيقي للتحرك الإسرائيلي الأمريكي، هو ما إذا كان صادرا عن عجز وارتباك في قراءة المشهد الراهن في الشرق الأوسط؟ أم مناورة جديدة؟ يتشارك فيها الطرفان لخلط الأوراق وزيادة المشهد ارتباكا تأهبا لتوفير فرص السيطرة من جانب كل منهما على أوضاع تزداد التهابا، يتلوها الانفراد بإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد بعيدا عن أسلوب الفوضى الخلاقة الذي تزعمته كونداليزا رايس وقت أن كانت وزيرة للخارجية في عهد جوج بوش الابن، وبدلا من ذلك استعادة أسلوب اتفاقية سايكس - بيكو، حيث يتفق الأقوياء على تقسيم المنطقة بخرائط جديدة.

ما ورد بخصوص القضية الفلسطينية في المناسبتين له شقان أحدهما قديم تم الكشف عنه حديثا يتعلق أساسا بآخر ما توصل إليه جون كيرى وزير الخارجية الأمريكي السابق ولم يقدر له النجاح، والثاني تعلق بما فاضت به على عجل قريحة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب ومشاركته الرأي بنيامين نتانياهو في اللقاء الذي جمعهما في واشنطن. ولم تخرج خطة كيري التي طرحها في فبراير 2016 خلال لقاء العقبة الرباعي عن الرؤية الأمريكية منذ بيل كلينتون حتى أوباما مرورا بجورج بوش الابن وذلك فيما يتعلق بالتمسك بحل الدولتين ومسائل الحدود للدولتين ووضع القدس وتوفير الأمن لإسرائيل، ولكن ورد فيها بعض الجديد مثل تحقيق رؤية قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة رقم 181 والمتعلق بقيام دولتين لشعبين، واحدة يهودية وأخرى عربية مع الاعتراف المتبادل والمساواة والحقوق الكاملة لجميع المواطنين المعنيين في الدولتين، وكذلك إنهاء الصراع وجميع المطالب الفلسطينية مما يتيح تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية على النحو المتوخى في مبادرة السلام العربية. وقد تضمنت جهود كيري التواصل مع بعض الأطراف العربية لتسويق هذه الخطة. ولكن نتانياهو رفض الخطة بحجة أنه لن يتمكن من تشكيل حكومة وحدة وطنية تقبلها ولأنه لا يضمن موافقة الليكود عليها أصلا، فضلا عن أنه لم يكن يثق في كيري!. وغضب الأخير وخرج على الملأ آخر العام الماضي ليعلن أن نتانياهو مسؤول عن إفشال جهوده. وبما أن الخطة كانت مطروحة قبل عام مضى وفشلت، أي لم تعد لها قيمة ثم لا حاجة للتذكير بتفاصيلها، فإن إثارتها مجددا وكشف السرية عنها لا يعني سوى تفضيل خلط الأوراق الذي يعكس حالة عدم اليقين والخوف من المستقبل وعدم القدرة على المواجهة الشجاعة مع الأزمات. يصدق ذلك على كيري نفسه الذي سرب المقربون منه التفاصيل للصحيفة الإسرائيلية وعلى نتانياهو الذي أقر بما جاءت به الصحيفة ترضية منه لترامب الذي قرر أن يمحو كل ما جاءت به إدارة أوباما. وأما ما ورد في لقاء ترامب ونتانياهو فقد كان دليلا قويا على أن كلا منهما يجهل المستقبل بل يخشاه ومن الأفضل لكل منهما أن يقلبا الطاولة على الجميع لكى لا يلتزما بشيء لا يثقان في نتائجه في ظل حالة السيولة والفوضى التي تضرب المنطقة بأسرها، وهكذا قضيا على حل الدولتين. وفيما يتعلق بما ورد بخصوص التحالفات والترتيبات الأمنية بين العرب وإسرائيل كمقدمة ضرورية تفتح الطريق لحل القضية الفلسطينية، وهو ما عرف بخطة إقليمية للسلام، أو «خطة الغلاف»، فإنها من وجهة نظر نتانياهو تقضي بتوقيع اتفاقيات سلام مع دول خليجية أولا ثم تغليف الفلسطينيين بها لاحقا بمساعدة عدة أطراف عربية وإقليمية، وهي كما هو واضح تخرج عن المسار القديم المتعلق بحل الدولتين، بل وعن مبادرة السلام العربية، بل في الحقيقة لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية وإنما بالتأهب للمشاركة مع الولايات المتحدة في صياغة مستقبل الشرق الأوسط. وما يسوق له نتانياهو في ذلك هو التصدي لإيران من ناحية وللتطرف الإسلامي من ناحية أخرى. وسواء صدر ذلك منه عن جهل أو وعي، فإنه لا يستقيم مع حقائق الأوضاع بالفعل ويؤكد مجددا أنه أصبح مسكونا فقط بمستقبل إعادة رسم خريطة المنطقة الذي لا يزال مجهولا على الجميع، فلا أحد في الخليج يريد أن يصل الخلاف مع إيران إلى حد الصدام، ولا أحد يصدق الرواية الإسرائيلية بخصوص ما تصفه بالتطرف الإسلامي، لأن إسرائيل هي المسؤول الأول عن صناعته في المنطقة.