857398
857398
شرفات

«التابع ينهض».. الرواية الإفريقية تُعارض الكولونيالية

05 ديسمبر 2016
05 ديسمبر 2016

إيهاب الملاح -

في مصر والعالم العربي، يبدو حضور الرواية الإفريقية خافتا ولا يحتل المساحة التي تليق بها من المتابعة والاهتمام مقارنة بمثيلاتها من الروايات الآسيوية (الهندية والباكستانية والإيرانية والتركية).. رغم أن الرواية الإفريقية وخلال القرن العشرين استطاعت أن تلفت إليها الأنظار وتجتذب اهتمام النقاد من كافة أنحاء العالم، وتحتل مساحة ليست هينة في خريطة الرواية المعاصرة.

من القارة السوداء، خرج روائيون عظام أصّلوا لفن الرواية في التربة الإفريقية وقدموا روايات عُدت من أعظم وأهم الروايات في العالم، ورسخوا لتيار في الرواية العالمية يناهض المركزية الأوروبية وسيطرة الرجل الأبيض، ويعيد الاعتبار للثقافات المحلية التي دمرها الاحتلال الأجنبي والاستعمار الأوروبي. وتضم قائمة الروائيين الإفريقيين أسماء ضخمة ولامعة بما قدمته من روايات احتلت مكانها ضمن أهم روايات القرن العشرين، وظهرت أسماء جديدة في عوالم الكتابة، مقترنة بحركات التحرر الوطني ورغبة الإبداع الذاتي. وسرعان ما فرضت حضورها خارج حدودها الإقليمية، خصوصا في سنوات الستينات من القرن الماضي التي رفعت شعارات التحرر في كل مكان.

ورغم ذلك كله، فإن ثمة غيابا نقديا ملحوظا في إطار الأعمال المكتوبة باللغة العربية عن هذه الأعمال، فباستثناء دراسة هنا أو كتاب هناك أو تقديم لرواية مترجمة أو قراءة ملحقة بأخرى، لا يوجد كتاب أو دراسة كلية يعتد بها في دراسة النتاج الروائي الإفريقي في القرن العشرين.

من هنا تبدو دراسة الناقدة الراحلة رضوى عاشور المعنونة بـ «التابع ينهض- الرواية في غرب إفريقيا» لافتة وجديرة بالقراءة، وترتاد طريقا غير مطروق في النقد العربي إلا في أضيق الحدود، فحتى زمن إنجازها لهذه الدراسة لم تكن هناك أية دراسات تتعرض للرواية الإفريقية، عدا دراسات معدودة تتناول هذه الرواية أو تلك بالتلخيص والتحليل.

في تفسير اختيارها للرواية الإفريقية للبحث تحت مجهر النقد، تقول عاشور: إن القضايا التي تطرحها دراسة من هذا النوع ليست بعيدة عن الشواغل اليومية للقارئ العربي والمشاكل التي يواجهها الكُتاب الإفريقيون، سواء كانت مشاكل سياسية ناجمة عن الواقع الاستعماري، ووليدة مرحلة التحرر الوطني، أو مشاكل إبداعية متصلة بموقف الكاتب من تراثه الثقافي والتراث الأدبي الأوروبي الذي أنتج الشكل الروائي، مشاكل تجد نظيرا لها لدى الكُتاب العرب.

أما الدافع وراء تحديد الرقعة الجغرافية للتناول النقدي للرواية الإفريقية باقتصارها على «غرب إفريقيا» أو بصيغة أخرى ضرورة تحديد منطقة بالذات لتناول إنتاجها الروائي، فلأن الحديث عن الرواية الإفريقية ككل يبدو محفوفا بالمزالق والعثرات ويحتاج لمجموعة من الدراسات التي تبحث التشابه والاختلاف بين الإنتاج الروائي في مجمل القارة سواء منه باللغات الوافدة، الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، أو باللغات المحلية وعلى رأسها العربية والسواحيلية، بحسب ما تحلل عاشور.

ولهذا فإن المنطقة التي اختارتها تشترك مجتمعاتها في واقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي إلى حد بعيد، مما يسهل على الدارس تناول الإنتاج الروائي لكُتابها في دراسة واحدة دون السقوط في التعميم أو التبسيط المخل، كذلك توضح عاشور أن محدد اختيارها الآخر كون هذه المنطقة قد شهدت زخما إبداعيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن مما جعلها من أكثر مناطق القارة عطاء، وجعل كُتابها يشكلون النسبة الغالبة بين الكُتاب الإفريقيين الذين يكتبون بالإنجليزية والفرنسية.

بنائيا، تنقسم الدراسة، إلى جانب المدخل والخاتمة، وثبت المراجع، إلى ثمانية فصول؛ يتناول الفصل الأول منها نشأة الرواية في غرب إفريقيا كشكل من أشكال التمرد على المضمون الأيديولوجي للاستعمار والدور الذي يختاره الكاتب في تأكيد ثقافته الوطنية ووصل ما انقطع من تاريخه وقيامه واعيا بدور المعلم. ويعرض الفصل الثاني لأحد الجهود الرائدة في «أفرقة» الشكل الروائي (إذا جاز التعبير) بالرجوع إلى التراث الشعبي الإفريقي واستلهام حكاياته وأساطيره، وذلك من خلال دراسة لبعض روايات الكاتب النيجيري «آموس تيوتولا».

الفصل الثالث يقدم دراسة تحليلية لروايات الكاتب الغيني «كامارا لايي» في ضوء الاتجاه الشائع بين كُتاب الزنوجة إلى تمجيد الشخصية الإفريقية وماضيها الحضاري كرد فعل لموقف المستعمر. ويوضح هذا الفصل ما في هذا الموقف من رومانسية وما يقود إليه من مزالق. فيما يعرض الفصل الرابع للتيار المناهض لهذا الموقف الرومانسي بتقديم نماذج للرؤية النقدية للواقع الإفريقي، وذلك من خلال دراسة الأسلوب الساخر لروائيين من الكاميرون هما «مونجو بيتي» و«فرديناند أيونو».

قضية العلاقة بين الكاتب الإفريقي وتاريخه الذي تعرض للطمس وللتشويه على يد المستعمر، يطرحها الفصل الخامس، وذلك من خلال تناول روايتين للكاتب النيجيري الأشهر «شينوا آشيبي». ويقدم الفصل السادس نموذجا للرواية البروليتارية الإفريقية التي تمثلها أعمال الكاتب والمخرج السينمائي السنغالي «سمبيني عثمان»، وذلك من خلال تحليل لرواية عثمان الملحمية عن إضراب عمال سكة حديد داكار النيجر في 1947 - 1948.

ويتتبع الفصل السابع صورة الواقع بعد الاستقلال كما يقدمها كُتاب الرواية في غرب إفريقيا، إن خيبة الأمل التي حدثت باستلام طبقة جديدة للسلطة بعد الاستقلال حلت محل المستعمر في النهب والقمع والتخريب تشكل نغمة أساسية في روايات كُتاب نيجيريا وغانا والسنغال وغيرها من بلدان المنطقة.

وأخيرا، يعالج الفصل الثامن مسألة اللغة التي تشكل أحد الهموم الأساسية للعديد من كُتاب القارة؛ فالكاتب الذي يريد أن يتوجه لأبناء وطنه وليس لأبناء قبيلته فقط يجد نفسه مضطرا لاستخدام لغة أجنبية، فكيف يستطيع الكاتب أن يجعل من لغة الغازي أداة صالحة لنقل تجربته الإفريقية ذات المضمون التحرري؟ يعرض الفصل لبعض الإجابات التي قدمها كُتاب الرواية على هذا السؤال.

قناعة عميقة بضرورة الاتصال الثقافي وجدواه بل ضرورته الملحة بين بلدان العالم الثالث عموما، والقارة الإفريقية بشكل خاص، هي التي دفعت وحركت وحرضت الناقدة الجليلة رضوى عاشور لإنجاز هذه الدراسة وإضاءة تلك الأعمال اللافتة في الأدب الإفريقي بتناولاتها النقدية الكاشفة. ليس فقط لما تواجهه هذه البلاد من مشاكل مشتركة وتطلعات مماثلة، ولكن أيضا لما في فنونها وآدابها من قيم تحررية وإبداعية، تجعل منها روافد قوية وجديدة تصب في نهر الثقافة الإنسانية.

لكن ثمة حافزا آخر كان وراء الدفع بإنجاز هذه الدراسة المرجعية، وهو الانطلاق من تصور محدد وواضح لطبيعة النشاط النقدي ومهامه، التي توجزها رضوى عاشور في قولها «إنه حري بنا نحن نقاد ودارسي الأدب في بلاد هذا العالم الثالث أن نتعرف ونعرِّف الآخرين بهذه الروافد الغنية، فإن جامعاتنا خليقة بأن تضطلع بمهمة تدريسها ونشرها بين الطلاب لإعداد جيل من المترجمين والباحثين والنقاد في هذا المجال».

تأتي هذه الطبعة الجديدة من كتاب رضوى عاشور بالتزامن مع مرور عامين على رحيلها، وضمن «مجموعة الدراسات النقدية» التي اضطلعت دار الشروق المصرية بإخراجها في طبعة جديدة، منقحة؛ لتكون بين أيدي الطلاب والدارسين والباحثين والمهتمين بالدراسات النقدية بشكل عام، ضمت المجموعة الكتب التالية: «الطريق إلى الخيمة الأخرى- دراسة في أعمال غسان كنفاني»، و«التابع ينهض- الرواية في غرب إفريقيا»، و«في النقد التطبيقي - صيادو الذاكرة».