منوعات

وداعا جبور الدويهي.. روائي الجرح اللبناني

24 يوليو 2021
مرفأ قراءة...
24 يوليو 2021

-1 -

بكثير من الوجع والحزن تلقيت نبأ رحيل الكاتب والروائي اللبناني الكبير جبور الدويهي (عن 71 عامًا)؛ جاء خبر رحيله صادمًا ليس لي وحدي بل لكل من عرفه وأحبه وأحب كتابته التي تجاوزت نطاقها اللبناني المحلي وتنطلق بطاقة إبداعها الأصيلة لتنتشر في معظم أرجاء عالمنا العربي، وتحتل مكانها في قلوب القراء من الخليج إلى المحيط.

كان جبور الدويهي ضمن أسماء قليلة في الكتابة السردية نجحت نجاحا باهرا في الوصول إلى قلوب وعقول قرائه بمحبة وبلا وساطة ولا مشهيات ترويجية وعمليات تسويقية صارت ملازمة الآن للكتابة كظلها! كتابته وحدها بعمقها وبساطتها وسردها السلس الأمين المخلص جعلت الآلاف يرون لبنان في العمق ويعرفون لبنان بالجوهر ويتجاوزون كثيرا الصورة النمطية الدعائية التي تكرست عبر عقود لترى لبنان من حيز محدود وضيق وخانق.

جبّور الدويهي حكّاء بارع، يعرف شخصياته جيدًا، واع تمامًا بالتغيرات العاصفة التي شهدتها بلاده والمنطقة بأسرها، من حرب أهلية طويلة، إلى معارك إقليمية أدت إلى انهيار دول بأكملها، ومن هنا جاء الدويهي برواياته وأعماله الفاتنة ليوسع زاوية الرؤية ويعيد صياغة المشهد على اتساعه وبكامل تفاصيله، لنر ما لم نره ونعرف ما لم نعرفه.

- 2 -

جبور الدويهي، اسم روائي معروف، وواحد من أصحاب الخطى الثابتة الواثقة في المشهد الروائي العربي بصفة عامة، واللبناني بصفة خاصة، ومنجزه الروائي (ما يقرب من الروايات العشر) مفعم بكتابة سردية اختطت لنفسها طريقا متميزا، وانتظمت في سلك روائي لا يخالط ولا يلتبس بمنجز آخر، استحق به عن جدارة مكانة كبيرة واهتماما ومحبة واعترافا مخلصا بين قرائه وجمهوره في عموم الوطن العربي، ونال عنه جوائز عدة من أهمها جائزة مؤسسة حنّا واكيم عن روايته «شريد المنازل» 2011، فضلا عن وصوله عدة مرات إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) برواياته؛ «مطر حزيران»، و«شريد المنازل»، و«حي الأمريكان».

درس الدويهي الآداب ودرّسها، وكان كما يقول "أشعر دائماً كأني واقع في الكتابة منذ صغري"، لكنه لم ينكبّ على إنجاز رواية إلّا في العقد الرابع من عمره (صدرت روايته الأولى «اعتدال الخريف» عام 1995)، حينما سألته عن سبب تأخره في إنجاز روايته الأولى؛ أجابني بكثير من التأمل والاسترجاع الممض:

"عندما رحتُ أشعر بأني لم أعد صالحًا لأشياء أخرى كثيرة. كأنني، ومع بعض أبناء جيلي، وبعد الفشل في تغيير العالم، اخترنا الثأر بكتابة هذا الفشل وتحويل الأمر كله إلى متعة لا تقاعد منها. بدأت "تجريبيًا" بمجموعة قصص قصيرة تحت عنوان «الموت بين الأهل نعاس» (صدرت عام 1990)، ثم وكما يقول الفرنسيون، تأتيك الشهيّة وأنت تأكل، تلاحقت الروايات ليصل عددها إلى8 روايات («اعتدال الخريف»، «ريا النهار»، «عين وردة»، «مطر حزيران»، و«شريد المنازل»، و«طبع في بيروت»، و«ملك الهند»، و«هواء مسموم»)، أحاول فيها كل مرة استكشاف إمكانات كتابية جديدة، وعادة يلزمني ما بين ثلاثة وأربعة أعوام لأنتهي من كتابة الرواية. طول الوقت أسعى أن أكون أمينًا لطبعي وذوقي الخاص"

الكتابة الروائية لدى جبور الدويهي هي في أغلب الأحيان تصفية حسابات مع الماضي أكثر منها "صناعة" للمستقبل، حتى أنه يشكّ في رغبة الروائي بالتغيير الاجتماعي، هو الذي يجد ضالته في أحوال وضع قائم قد يتردد إزاء زواله. علمًا بأن الكاتب في مواقفه وحياته العامة قد يختلف جذرياً عن الراوي وخياراته، والأمثلة على ذلك عديدة في تاريخ الأدب الروائي، من بلزاك إلى دوستويفسكي.. يقول لي "في كل حال، لا رسائل مباشرة أسعى إلى توجيهها من خلال رواياتي سوى أن السيناريو المتخيّل وأفعال الشخصيات ومصائرها ينجم عنها مسارٌ أخلاقيٌّ وسياسي أيضاً قد يستجيب له القارئ أم لا".

- 3 -

رواية «شريد المنازل» كانت أول ما قرأت لجبور الدويهي، وكانت إحدى الروايات الست التي تم اختيارها ضمن القائمة القصيرة للمتنافسين على الجائزة العالمية للرواية العربية للعام 2012، وهي رواية بديعة وفي منتهى الرقة والإنسانية، تستعيد أجواء الحرب الأهلية اللبنانية بواقعية تجعل القارئ ينخرط في أجوائها، يمكن إدراجها ضمن سياق متصل مما اصطلح البعض على تسميته بـ"رواية الحرب اللبنانية"، وبعد أكثر من 35 سنة على نشوبها.. أذكر أنني سألته سؤالا مباشرا عن الرواية وما إذا كان يرى أن ثمة رابطًا أو خيطًا موصولًا بين «شريد المنازل» تحديدًا وبين أعمال أخرى سابقة قد تدرج ضمن هذا السياق؟

فجاءت إجابته شاملة ومستوعبة ودالة تماما على عمق الجرح اللبناني ووطأته في نفوس أبنائه، يقول لي "الحروب اللبنانية وما إليها من "لبننة" ونزاعات أهلية خلقت بالتأكيد حيّزاً روائياً لم يتمكن أيّ من الكتاب اللبنانيين تفاديه، لا بل إن بيروت شكلت مسرحاً للعديد من الروايات والأفلام الأجنبية، وفي كل ذلك فكرة صراع الأخوة المتشابهين والعنف العبثي حاضرة".

صاغ الدويهي في روايته البديعة «شريد المنازل» (صدرت طبعتها الأولى عن دار النهار البيروتية 2010)، مأساة الشاب اللبناني "نظام العلمي" الذي راح ضحية الاقتتال العنيف في لبنان خلال الحرب الأهلية، فلا المسلمون اعتبروه مسلماً، ولا المسيحيون حسبوه واحداً منهم.. لفظه الجميع وقبله الله. مأساة يرويها ويتتبع فصولها وينسج خيوطها باقتدار وتمكن وبراعة لافتة، حتى انتظمت "سيرة نظام العلمي" في عمل روائي متميز بنائيا ولغويا، مستغلا أو متكأ على النواة التاريخية مضيفا إليها، وعبر تخييل فني متماسك ومحكم، تفاصيل معبرة وحوارات مؤثرة.

أو كما جاء في تقرير لجنة التحكيم حينها "بطل الرواية مثال للفرد اللبناني المأزوم الذي فرض عليه واقع طائفي، في حين هو لا ينتمي إلى ذلك الواقع وجدانيا. شخصية كهذه في الواقع اللبناني تجد نفسها هشة وعرضة للتشكيك في انتمائها ولمواقف ونزاعات تجعلها مضطرة للبقاء في وضع التأهب معظم الوقت".

تعرضت «شريد المنازل» بكثير من التفصيل الرهيف لجانب من حياة التيار اليساري في لبنان، وعرضت لنماذج من الشباب المثقف اللبناني، ونضالهم في السبعينات من القرن الماضي. وكأن الرواية كانت بمثابة إدانة جمالية دامغة لمن أسقط هذا الشباب وتلاعب بنضاله واستغل كفاحه للوصول في النهاية إلى الاقتتال الطائفي والعرقي للقضاء على هذه الحركات النضالية. يؤكد لي الدويهي صواب هذه الرؤية حينما يقول:

"تداخلت مع سيرة "نظام العلمي" بطل الرواية، وتقاطعت معها سيرٌ أخرى وتجارب شخصية وعامة واستعادة لجيل من اللبنانيين فتنتهم المُثل اليسارية وشتتتهم الحروب اللبنانية، وهناك بالطبع موقف خلفي في الرواية يشي بخيبة من كنت منهم يسارياً مناضلاً في سنوات الجامعة مفعمين بالآمال ومقبلين على الحياة بشراهة، فانزوينا أمام المدّ الأهلي المتفجّر وانقساماته الطائفية التي أودت بكل منا إلى "عشيرته" أو إلى خارج البلاد. بقي نظام في الوسط".

- 5 -

كان الدويهي ممن يرون أن هناك وفرة روائية نسبية ومثابرة من قبل الروائيين وخاصة على إصدار الأعمال دورياً، ولم يكن منزعجا أبدا من دخول أسماء جديدة وشابة ونسبة لا بأس بها من السيدات، بل كان يرى ذلك جميلا وأن الأجمل هو التنوّع في أشكال الكتابة واستخدامات اللغة.

لبنان في رأيه ما زال خصباً في هذا المجال منذ حوالي المائة عام مع غزارة غير مسبوقة في الحقبة التي تلت الحرب الأهلية. وهو يرى أن الكتابة الروائية عموما اجتاحت في العقود القليلة الماضية المشهد الأدبي العربي بشكل لافت. إنه كما يقول "نوع مغرٍ فضفاض عصري وقديم يحمل تجاربنا وخيالاتنا على تنوّعها".

منذ روايته الأولى ومرورا بأعماله التي وفرت له شهرة عريضة وكبيرة في أنحاء العالم العربي يتنقل قارئ هذه الروايات بين فضاءات حورا وبيروت وطرابلس وزغرتا وإهدن، وجسدت بجمالية عالية هذه الفضاءات بحمولاتها التاريخية والاجتماعية والدينية.. بالتأكيد كان هذا التركيز مقصودًا لذاته وعنصرا أساسيا من عناصر البناء الروائي كما كان أيضًا بمثابة خلفية الأحداث وتحضير مسرح السرد.

لا يكتب الدويهي إلا انطلاقا من شعوره بالأمكنة، ولا يبدأ بالكتابة إن لم يحط شخصياً بميزات المكان وإمكاناته الروائية وأبعاده الرمزية والثقافية والاجتماعية. والبلدات والمدن التي تجري فيها أحداث الرواية عاش فيها وتنقل بينها لزمن طويل؛ يقول لي "كتابتي مكانية في الأساس".

لا تكفي المساحة ولا تفي بما يفيض عن الخاطر والوجدان في استحضار متعة قراءة ومحاورة الدويهي على الورق وباللقاء المباشر أيضًا، فقط أقول وداعًا وسلامًا ومحبة لا تزول يا صديقي..