No Image
منوعات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

26 مارس 2023
26 مارس 2023

ـ كيف يمكن ربط الصيام ببرامج الحياة اليومية عند المسلم ؟

الصوم عبادة تختلف عن سائر العبادات التي شرعها لنا ربنا تبارك وتعالى في هذا الدين الحنيف، لأنها عبادة تزكية، فهي إمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع القصد والنية، فهي بهذا تختلف في طبيعتها، لأنها كف وامتناع، وفارقت بذلك سائر العبادات والأعمال التي أمرنا بها ربنا جل وعلا، لأن تلك الأعمال هي أعمال يباشر فيها المكلف أعمالا، قد تكون بدنية أو مالية أو تجمع بين الاثنين، لكن الصوم يختلف عن ذلك كله، ولهذا فهو طريق قريبة موصلة إلى التقوى ولهذا نجد أن الله تبارك وتعالى حينما أمر عباده بالصيام ربط هذه العبادة فورا بالتقوى، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» قبل أن يبين كيفية الصيام والأحكام والشروط والآداب والمعاني التي تحتف بالصيام بين أنه موصل إلى التقوى، وأي خصلة يمكن أن تكون أرغب لله عز وجل وأحب إليه وأوصل إلى دار الجنان من تقوى الله تبارك وتعالى.

ولذلك إن الصيام يستهدف صياغة المسلم، يستهدف باطنه إصلاحا وتزكية وتربية وترفعا عن حطام هذه الحياة الدنيا وعن أهوائها وشهواتها بحيث يسوس المسلم نفسه إلى معالي الأمور، ويقدم طاعة الله عز وجل مخلصا منقادا، ويسلس القياد لأمر الله تبارك وتعالى، لا يبتغي إلا رضاه، ولا يطلب إلا احتساب الأجر والثواب، ولهذا أيضا نجد في الحديث القدسي الذي رواه الشيخان وغيرهما من طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: « كل عمل ابْن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجْزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوْم صوْم أحدكمْ فلا يرْفثْ ولا يصْخبْ، فإنْ سابه أحد أوْ قاتله فلْيقلْ إني امْرؤ صائم» ومن المعلوم أن كل العبادات والأعمال التي يقوم بها المكلف مآلها إلى الله تبارك وتعالى، هو الذي يكافئ عليها ويجزي بها، فكيف يكون كل عمل ابن آدم له إلا الصيام يستأثر به ربنا تبارك وتعالى، أبرز ما يكشف لنا عن وجوه هذا الحديث هو أن الصوم وجه الإخلاص فيه أقوى، لأن الفعل قد يتباهى به الإنسان، وقد يسعى إلى إظهاره، لكن حقيقة الصوم لأنها إمساك وكف لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، قد يستوي الممسك صائما مع الممسك شبعا في ظاهر الحال، لكن الذي يعلم الصائم من غيره إنما هو رب العزة والجلال، فإذا كان هذا الصائم حاملا نفسه على الإخلاص لله تبارك وتعالى فإنه حينئذ يقدم عملا استأثر به وجه الله تعالى، والأمر الآخر من إضافة الله عز وجل الصوم إلى نفسه، أشعر ذلك بعظيم قدر هذه العبادة وبشريف منزلتها، وهو ما يعبر عنه العلماء بأنها إضافة تشريف وتكريم، فهذا يكشف عن شرف هذه العبادة وعن عظيم قدرها عند الله تبارك وتعالى، فتلبس المكلف بهذه العبادة التي هي بهذا القدر وجلالة المنزلة يستشعر معه أنه أقرب إلى الله تبارك وتعالى وأنه أوثق صلة به مع استحضار المعاني المتقدمة من لزوم التقوى وبلوغها، ومن الإخلاص له جل وعلا، فهذا وجه ظاهر في عبادة الصيام ولذلك قلت بأنها تصوغ حركة هذا الإنسان وتبني له شخصيته فترفعه وتزكيه عن حطام هذه الحياة الدنيا من الماديات والأموال التي يتنافس الناس فيها، أو الشهوات التي يندفعون إليها متبعين لغرائزهم، يأتي هذا الصيام ليكبح جماح هذه الشهوات، وليربي نفس الصائم على الاستسلام لأمر الله تبارك وتعالى وأنه قادر على أن يصبر على هذه الشهوات والأهواء والزخارف التي تحيط به في وجوده في هذه الحياة الدنيا، فإذا أحسن الانتفاع بهذه العبادة أمكن له أن يضبط حركته في هذه الحياة بناء على هذا الأساس المتين، فليست غايته أن يجمع حطامها أكلا وجمعا للمال، وتكاثرا وتفاخرا بها، ومنافسة للآخرين، وإنما هي رحلة عبور، ودار ممر يقطعها بتوفيق الله عز وجل مجتهدا في أداء ما افترضه عليه ربه تبارك وتعالى يحرث فيها بالعمل الصالح ليحصد في الحياة الآخرة ما قدمه لها من العمل الصالح.

ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الحسنةُ بعشرِ أمثالِها، إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ، إلى ما شاء الله، إِلَّا الصيام، ثم تلى صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: « إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» فهذا يعني أن ثواب الصيام هو خارج هذه المضاعفة العددية التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم عظمها ورغم ما تبعثه في النفس من عظيم فضل الله عز وجل على العبد فيها إلا أن الصيام مع ذلك فوق هذا العد فهذا أيضا يدفعه إلى أن يضبط حركته في هذه الحياة يحسن قيادها ويسلم أمره إلى الله تعالى ويتذكر أنه في دار ممر وعبور، وأنه عن هذه الحياة الدنيا منقول إلى حياة الجزاء التي هي الآخرة.

ولهذا بلغ من فضل الصيام أنه في هذا الحديث يقول: «والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ» فأن يكلل الصوم بكل هذه البركات واللطائف والرحمات كل هذا لا شك يظهر أثره في شخصية هذا المسلم وفي حركته في الحياة لا في ضبط وقته فقط، وإنما في ترتيب أولوياته، وفي إدراكه أنه لم يخلق لهذه الحياة الدنيا، وإنما خلقت الدنيا له وهو خلق للآخرة، فسخر له ما في هذه الحياة ليجتهد فيها بالطاعة والعمل والعلم والتقرب إلى الله عز وجل، وتذكر أحوال الفقراء والمساكين والمعوزين في المجتمع، لأن لسعة جوع الصائم تذكره كما تذكره بنعم الله تعالى عليه، وحينما يتذكر هذه النعم يشكر الله تعالى عليها ثم يؤدي حق المنعم عليه فيها وللعباد بحسب هذه النعم التي أوتي إياها.