No Image
منوعات

«جرعة هواء» .. واكتئاب ما بعد الولادة

26 يونيو 2022
26 يونيو 2022

تنزوي جولي (أم حديثة العهد) في شقتها لتتوارى عن أنظار كل من تعرفهم، تناظر طفلها الأول الذي لم يتجاوز العامين وهو أمام شاشة التلفاز يبادلها نظراته البريئة، تحاول الانتحار مرارًا وتكرارًا في تلك البقعة المنزوية من شقتها إثر معاناتها الطويلة بعد الولادة الأولى.. كنت قد قطعت عهدا على نفسي أن أسخر كل ما أملك من إمكانات لأضع اعتبارًا للمرأة في أي بقعة كانت من هذا العالم، وبعد استماعي للكثير من القصص وصرخات النساء المتوالية في هذا العالم، آثرت على نفسي كل كلمة، فالصرخة التي خرجت من واحدة لا يمكن أن تبقى صدى عابر بل هي صوت الحقيقة التي وئدت منذ مدة، صوت الحقيقة الذي لا يمكن له أن ينقطع بعد الآن، صوت شهقات امرأة تقاسي هنا لترد عليها أخرى في بقعة أخرى من هذا العالم، كم أن لهذا العالم المتسع في عيون الكثيرين، الصاخب بحيوات جديدة؛ ضيق في أعين تلك الأمهات اللاتي يعانين من ألم الولادة وما بعدها من مشاعر الاستياء واليأس شديد، يحرقن أنفسهن ليستمد أطفالهن منهن الدفء قبل أن تلفحهم نسمات البرد وهن يدركن أن هذه النيران تلتهمهن وأرواحهن ورغم ذلك لا يشاركن همومهن أحد!

جرعة هواء.. فيلم سينمائي أنتج عام 2021م مقتبس من رواية حملت ذات الاسم مبنية على تجربة شخصية شبه واقعية وتقلبات عاشتها كاتبة الفيلم إيمي كوبلمان وقامت بمهمة إخراجها صاحبة الرواية نفسها إلا أنها غيّرت من مجرى أحداث النهاية لتوصل رسالتها للأمهات، كما صورت مشاهدها بعناية وبدقة فائقة وانسجام لا مثيل له وتمثيل يتفطر القلب له الممثلة أماندا سيفريد التي مثلت دور جولي ديفيس، حيث لاقى الفيلم ردود أفعال شاسعة وتناول في طيات مشاهده معاناة الأمهات من اكتئاب ما بعد الولادة الذي تعاني منه واحدة من أصل خمس أمهات حول العالم بعد الولادة الأولى.

تدور الأحداث حول الشابة جولي ديفيس التي تعيش مع زوجها إيثان ديفيس، كاتبة قصص الأطفال المحبة للفن، وأم رزقت بطفل منذ عهد قريب، تعاني من تقلبات في مشاعرها وأفكارها بعد ولادتها الأولى بطفلها «تيدي» لتتحول هواجسها من عدم قدرتها على تحمل مسؤولية منزلها والاعتناء بطفلها إلى خوف وذعر يلازمانها طيلة فترة ما بعد الولادة. ووسط كم التقلبات والأفكار التي تشعر بها جولي، تقف معها والدتها لتتكفل بمسؤوليات منزل ابنتها والاعتناء بحفيدها حتى تتعافى، ولم تتوان الكاتبة عن إلقاء الضوء على طفولة جولي عبر استرجاع بعض المشاهد والمواقف التي عاشتها مع والدها التي كانت أحد العوامل التي ساعدت في إيصالها لهذه المرحلة، تلك الذكريات التي حاصرتها منذ طفولتها والتي دفعت بها للتفكير مرارًا وتكرارًا بالانتحار منذ أن كانت في الصف الأول؛ امتد أثرها إلى أن كبرت وباءت محاولتها الأولى بالفشل.

تلجأ جولي لاستشارة طبيب نفسي مختص بعد ولادتها بطفلها (تيدي) ومحاولتها الأولى للانتحار ليكشف لها الطبيب بأنها تعاني من اكتئاب ما بعد الولادة، فيصف لها مجموعة من الأدوية ومضادات الاكتئاب، ويحاول طمأنتها أن هذا قد يحصل مع أمهات أخريات جابهن هذه المرحلة بكل قوة، وأنها ليست الوحيدة التي تعاني من هذه المشاعر.

تمتنع جولي بعدها عن تناول أدويتها بسبب الضغط الذي تواجهه من قبل أسرتها وجيرانها وأقاربها؛ لأنها غير قادرة على تحمل مسؤوليات طفلها لتنظر إلى نفسها بأنها مدللة وضعيفة جدًا وتشعر كما لو أن أي امرأة أخرى غيرها كانت لتبلي بشكل أفضل في رعاية تيدي. وتستمر هذه الأفكار بعد معرفة جولي بحملها الثاني الذي كان في وقت غير متوقع بالنسبة لها، فتشتد بها الهواجس حول عدم قبول طفلتها لها وعن الثمن الذي ستدفعه ابنتها لكونها أمها، لتعود مرة أخرى لتناول الأدوية التي وصفها لها الطبيب حتى ولادتها الثانية بطفلتها «ريتشل».

«جولي» التي تحاول أن تتشبث بلحظاتها السعيدة مع طفليها وزوجها بعد امتناعها عن الأدوية للمرة الثانية، تقاوم كل الأفكار السيئة التي تراودها والتي تجعل منها أما غير قادرة على تحمل المسؤولية إلا أنها ما تلبث إلا وأن ينكسر عود القش الذي تشبثت به، فتصل جولي لمرحلة تتظاهر فيها أنها على ما يرام مخفية ما تعانيه، ومجبرة نفسها على تحمل أعباء المنزل والاعتناء بطفليها لتكتم كل شيء بداخلها ولا تبوح به حتى لزوجها إيثان.

وتنتهي قصة الشابة جولي، مؤلفة قصص الأطفال بعد ذلك لتكون نهايتها كالنهاية التي وضعتها لقصتها «بنكي تينكربينك.. تنقذ النجوم» والتي قالت فيها (بينكي تينكربينك وأمها كانتا أعز صديقتين حيث قضتا أوقاتا سعيدة معًا، ثم في يوم من الأيام مرضت أم بينكي، ولم يتمكنا من اللعب سويا بعدها، ففي كل ليلة قبل النوم كانت بينكي تتمنى من إحدى النجوم أن تصبح أمها بخير، لكن شيئا فشيئا بدأت النجوم تختفي من السماء، ولم تتحسن حالة أمها، وفي إحدى الليالي نظرت بينكي عبر النافذة فرأت أن النجوم كلها اختفت فلم يتبق لها أي شيء لتتمنى منه"، لتكون نهاية بطلتنا في هذه القصة «الانتحار»).

خطف اكتئاب ما بعد الولادة حياة واحدة من حيوات أمهات هذا العالم واللائي عانين في حياتهن من الحيرة والحزن والألم وهو ما عانت منه بطلتنا في هذه القصة حيث لم تكن مدركة لما تمر به من صراعات بينها وبين نفسها، فكم من أم في هذا العالم عانت ما عانت ما بعد ولادتها الأولى أو الثانية وكان مصيرها بذات مصير جولي، كم من «جولي» احتاجت لـ«جرعة هواء» تستمسك بجزيئاتها لتنجو من تلك المعاناة، رغم أن جرعة واحدة قد لا تكفي ولكنها قادرة على تغيير مسار حياة أم في هذا العالم.

إن مادة هذا الفيلم بما عرضته من تفاصيل مهمة تتعلق بالأمومة والتي دائما ما توضع على الهامش جديرة بالاهتمام والمشاهدة، إذ استطاعت من خلالها الكاتبة أن تلهم نساء أخريات على مشاركة تجاربهن عبر نشر قصتها وإخراجها في مادة فيلمية عميقة. عرفت من خلالها الأمهات والنساء المقبلات على مرحلة الأمومة بأعراض اكتئاب ما بعد الولادة والمخاطر المحتملة مع تغيير في مسار الرواية حيث لم تقدم الكاتبة على الانتحار رغم رغبتها في الموت. وإن في اختيارها لهذه النهاية المؤلمة المنسوجة من خيالها السوداوي رسالة ودعوة لكل أم لتلقي العلاج المناسب قبل تدهور وضعها الصحي.