عمان الثقافي

الطواف بين الجسد وعنصرية أوروبا

27 يوليو 2022
27 يوليو 2022

لا بد للقارئ الذي يدخل روضة الرواية العربية الحديثة، من المرور بقطعة نضرة من أرضها، موسومة باسم الروائي والأديب السوداني المصري طارق الطيب، ذلك الإنسان الذي تستطيع أن تستشف بعض ملامحه من خلال شخوصه الروائية التي يتكلم على ألسنتها، فهو شخصية متأملة وهادئة، وتملك الكثير من الصبر والتحمل، وعندما تلتقيه، تجد الكثير من الدماثة في حديثه والتواضع داخله، فهو لا يحمل تلك النرجسية التي تتوقعها من أكاديمي عربي في الجامعات الأوروبية، وتفاجأ أثناء الحديث معه إذ تكتشف أنه قضى ما يزيد عن الثلاثين عاما كمدرس في جامعة فيينا العريقة، التي يعود عمرها لما يزيد عن ستمائة وخمسين عاماً، وهو أستاذ زائر في عدد من جامعاتها الأخرى كذلك.

انتقل الطيب من القاهرة إلى فيينا عام 1984م، درَس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، تخرج عام 1997 من كلية الاقتصاد بفيينـّا بدرجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والاقتصادية عن أطروحة حملت عنوان «نقل الأخلاق عن طريق التكنولوجيا - الصراع بين الهوية والربحية». يعمل حاليًا كمدرس ومحاضر في جامعة فيينا، وجامعة جراتس، وجامعة العلوم الإدارية بمدينة كريمس في فيينا بالنمسا.

له تسعة أعمال منشورة بالعربية وأربعة أعمال مترجمة إلى الألمانية وأخرى مترجمة إلى الفرنسية والمقدونية والصربية، والكثير من الدراسات والنصوص المترجمة إلى عدد من اللغات العالمية.

في روايته «وأطوف عاريا»، الصادرة عن دار العين في القاهرة عام 2018م، يجعلك الطيّب تعيش مع الراوي «مينا سليمان» الذي جاء من بلاده «مصر» مطلع الثمانينيات كطالب للدراسة ودون معرفة السبب الحقيقي وراء هجرته إلى فيينا تحديداً، تلك المدينة التي طرق أبوابها حاملاً «تسع لوحات» اختارها من بين جميع أعماله الفنية التي كان يرسمها في القاهرة، لتكون رفيقة رحلته، وسيرته الذاتية أمام أكاديمية الفنون الجميلة التي قرر الالتحاق بها، لينتهي به المطاف «كموديل» بعد أن وقّع عقدا مع أكاديمية الفنون ليقف «عاريا» أمام طلبتها، وهو الفنان الذي يملك الكثير من المصطلحات والمفاهيم الفنية الخاصة، لكنهم يعتبرونه الآن «موديلاً» نادرًا. حيث تقوم ماجدالينا - والتي بدأت علاقتها مع مينا بصفة رسمية انتهت بها إلى علاقة شخصية جدا-، تقوم بتنظيم عقد عمل يتم من خلاله دفع أعلى سعر على الموديل النادر «مينا»، كونه عملًا شاقا وجادا، خاصة بالنسبة للذكور. فهو يتطلّب امتلاك القدرة التامة على التحكم في السلوك الجنسي.. كما ذكر الطيّب على لسان بطله مينا حين قال: «عملت لأيام متواصلة، وجسمي منهك يحتاج لراحة التدثر، فراحته تأتي من حجب عُريه».

لم يتطرق الطيب في هذه الرواية إلى تفاصيل دراسة بطله بقدر ما تحدث عن وظيفة «الموديل» التي من خلالها يتعرف ذلك البطل على عدد من الصديقات اللاتي يأتي ذكرهن في الرواية بمحاور مختلفة.

يهندس الطيب في روايته «وأطوف عاريًا» عددًا من الشخصيات التي تتداخل مع القارئ دون إقحام فج، فتجعله يطوف برفقة بطل الرواية مع كاترينا التي يتعرف عليها البطل في حفلة عيد ميلاد، ينتقلان بعدها إلى علاقة صداقة حميمة تصل بهما حد التصعلك معا في الكثير من شوارع وأزقة فيينا، وتستمر تلك العلاقة حتى تأتي كاتيا ولويزا اللتان يعرف من خلالهما مانويل، الشخصية التي تصبح فيما بعد قريبة كثيرًا من «مينا»، الذي ما يزال يحمل في داخله وأثناء تجواله ما بين النساء والمدن والشوارع النمساوية، الحبيبة الأولى «شهدة» التي عاش معها العلاقة الأولى له في القاهرة، وكانت الموديل الفني الذي يقوم بتجسيده في لوحاته.

بينما نجد الصديقة نادين بحسب تعبيره «الروح الحساسة التي تجد لي دائمًا فرص عمل إضافية في أمكنة قريبة داخل فيينا، أو تطلب منهم تحمل تكلفة المواصلات وتعويض الوقت إن كان العمل في الضواحي»، حيث تبدو نادين من الشخصيات المحورية في حياة «مينا سليمان»، فتبقى الصديقة التي تواسي غربته وتعيش أيامه في النمسا، «مع نادين بدأت فعلاً أشعر بأنني مثل فيل أنعمت عليه الطبيعة. أحس بأنني أتواصل معها بموجات عالية تحت صوتية. أستشعر وجودها في مجال واسع، ربما مائة متر أو ألف أو ما يزيد».

امتلكت شخصية الراوي «مينا»، منذ وصولها إلى فيينا شبكة واسعة من العلاقات، التي احتلت المرأة المرتبة الأولى ضمنها، «يرى مينا نفسه محظوظًا بالمرأة في تلك المدينة. حين يراجع في ذهنه معظم من تعرف عليهن أو صادقهن، يكاد يوقن بأن كل واحدة منهن قد أضافت له إضافة لا تنسى – حتى السلبي منها – بل إن حكاية كل امرأة هي حكاية كل الحياة»، وهكذا يستعيض عن الزواج بفكرة العلاقات، حيث يشير إلى هذا ضمن حواره مع نادين فيقول «أعتقد أنني لن أتزوج، سوف أكتفي بالحب مدى الحياة. الحب أبقى من الزواج».

تحمل الرواية أكثر من مدخل في بنيتها، فهي رواية ترصد أحلام راغبي الهجرة إلى الغرب على أنها «جنة الله في الأرض»، حيث يضيق بهم العيش في عالمهم العربي، ويجدون بأن المكان الوحيد الذي يمكنهم اللجوء إليه هو الغرب «النمسا، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا»، بمدنها التي تمنح حق اللجوء ظاهريًا، ولكنها تتعامل بعنصرية في الداخل، ولعل الوجه الأكثر وضوحًا، والذي يريد الروائي طارق الطيب الحديث عنه في هذه الرواية هو «العنصرية» كما عايشها خلال الثلاثين سنة الماضية.

بناء الشخصية الروائية

يختار الطيب أسماء شخصياته الرئيسية بعناية ودقة فائقة، حيث يبحث عن المدلول التاريخي للاسم، كما نلاحظ في بطل روايته – التي نتحدث عنها – مينا، فهو فرعون مصري قديم من عصر الأسر المبكرة، وما تزال هوية مينا حسب المصادر التاريخية موضع جدل، فالبعض ينسبها إلى ثاني فراعنة الأسرة الأولى في مصر القديمة، والبعض الآخر ينسبه إلى «نعرمر» وهو ملك من ملوك الدولة القديمة في عصر الأسر المصرية المبكرة في القرن 31 قبل الميلاد، وهذا ما يجعلنا ندرك أن أسماء الشخصيات التي يختارها الطيب تكون محل جدل بمدلولاتها وخلفياتها.

وقد استطاع الطيب في هذه الرواية كما بقية أعماله السابقة أن يهندس بناء الشخصيات داخل العمل، بطريقة واضحة نافرة تشبه أن تكون ثلاثية الأبعاد، تجعل القارئ يشكّلها في ذهنه كأنها تمر أمامه على شريط فيديو بكل ما تحمله من شكل ومضمون وحركة، فتجد شخصياته داخل «الصندوق الأسود»، يستخرجها لحظة البوح، ويعيدها إلى الذاكرة في الوقت الذي يراه مناسباً، وقد يعيد استخراج الشخصية مرة أخرى كما فعل مع «الحبيبة» شهدة، وعلاقتها بمينا، تلك العلاقة التي جاءت بالصدفة ولكنها انتهت بناء على دراسة واقعية حيث إنهما لا يؤمنان بالمؤسسة الزوجية، ويبقيان في علاقة كحبيبين حتى تلتقي شهدة بشخصية يمكن أن تمثل لها زوج المستقبل «عمر».

وتطل علينا الشخصيات في رواية الطيب ما بين الصفحة والأخرى، بحالة حميمية تجعلنا نألفها، وتستمر معنا في سرد يأخذنا ما بين ميدان التحرير وميدان فيينا، ومن الجدير بالذكر تناول الكثير من النقاد لهذه الرواية على أنها شهادة في وجه العنصرية المتواجدة في النمسا ضد الملونين، حيث إن المجتمع الحقيقي داخل النمسا يرفض المتحدرين من العرق الأسمر، ويعيش حالة استهجان داخلي لوجودهم، تظهر في طريقة التعامل معهم خلال الحياة اليومية.

وحول الصديق الوحيد الذي تحدث عنه في الرواية يقول مينا «عرفت نادين كلا منا على الآخر، اسمه مانويل، من الجيل المختلط الأول المولود بعد الحرب العالمية الثانية، أبوه أفروأمريكي وأمه نمساوية، ولد في فيينا، وكان مستاء من الأوضاع المأساوية المتكررة لكراهية الأجانب، وهذا ما جعل المجتمع يتعامل معه بقسوة في أيام الطفولة والمدرسة، وحكاية القصص المدرسية التي يقرأها الأطفال برعاية من المدرسين مثل «الزنوج العشرة الصغار».

من خلال الحديث المشترك مع مانويل والإسقاطات التي تتخلل السرد في الرواية، نجد أن بأن «مينا» عانى من العنصرية داخل المجتمع النمساوي، وهذا ما يؤكده طارق الطيب في إحدى الندوات حول الرواية حينما يقول «إذا كنت أسود اللون في النمسا، ونطقت بعض الجمل بألمانية واضحة وصحيحة أمام أهل البلد، فقد يتعجب منك البعض ويوجه لك هذا السؤال الغريب المتكرر، بطريقة المبالغة في الاحترام باستخدام صيغة الجمع في لغتهم، فيقول: «أنتم تتكلمون الألمانية بشكل جيد جدا! لكن من أين أنتم؟!».

العلاقة بين التعري والعنصرية

يوحي عنوان الرواية بأن بطلها يطل على عالم العري منذ اللحظة الأولى مقارناً ما بين الثقافة الشرقية والغربية، حيث يستحضر مشهدًا من طفولته، عندما كان يكتشف جسده حديثا أثناء استحمامه عارياً، ودخول أخته بشكل مفاجئ، جعله يشعره بالذنب على هذا الفعل الذي يعتبره خارجًا عن المألوف، وينتظر الوشاية عليه في الأسرة لما ارتكبه حينها من حركات تعتبر غير لائقة، مستدعياً التربية المجتمعية التي نشأ عليها في «غض البصر»، والتي تبدأ من تجنب التحديق في المناطق الحساسة لدى الرجل أو المرأة ولا تنتهي عند أي حد، بينما يبدأ حياته العملية في النمسا «كموديل» يقف عاريًا أمام أربعة وأربعين طالبًا وطالبةً ليقوموا بالتحديق في جسده، واصفًا إحساسه في ذلك الحين بقوله: «غصت في ذاتي عاريًا، أتستر بأسئلة ربما تمنحني معنى للملابس على الجسم ومعنى للحجب، حتى امتحنني سؤال قديم: هل فعلاً كان الحجيج – رجالًا ونساءً – في زمن ما يطوفون حول الكعبة عرايا، ظناً منهم بأن الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة»، ويواصل الراوي حديثه «إن الإحساس بالعُري مثلاً ينتفي حين يتشابه الكل في الرداء أو اللارداء»، ليقوم بتجربة ذلك مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات بالذهاب إلى «شواطئ الجسم المتحرر».

نجد بأن الراوي يذهب بعيدًا في المعنى داخل العري، فالعري هو أن تكون ذاتك، كما أنت لكن بدون التدخل في شؤون الآخرين أو التلصص عليهم فيما يفكرون، فحينما تتحرر الأجساد من أثقالها، لا يعود النظر إلى أجساد الآخرين شيئًا ذا أهمية، بل يصبح حالة فكرية يمكن التعامل معها خارج المنظور المادي.

الطيب والأحلام

يرى المحلل النفسي والفيلسوف النمساوي سيغموند فرويد بأن «الأحلام هي الحلقة الأولى في سلسلة من التكوينات النفسية، قيمتها من الناحية النظرية أكبر من كونها عملية، ويمكن أن تساعدنا في شرح نشأة الرهاب والعصاب والأفكار الوسواسية»، وقد اعتمد الدكتور طارق الطيب فلسفة الأحلام في معظم أعماله الروائية حيث يمزجها داخل الرؤى التي يستحضرها بشكل كامل في كتاباته، ونجده في رواية «وأطوف عارياً» يستحضر ما يقارب العشرة أحلام ثلاثة منها تكون الأم حاضرة فيها بقوة «أرى أمي حبلى في رمسيس... في الحلم كنت أظن أن الجنين الذي في بطن أمي هو ابني وأود أن أسميه رمسيس»، ويقول الطيب عن المبالغة في الحُلم «لا يجوز قياس الأحلام بميزان شرائع اليقظة، ثمة أحلام لا نسردها لأحد، نخفيها في صندوق أسود داخلنا، لكنها تحضر من تلقاء نفسها وتتكرر، نتجاهلها إن بانت ولا ننبئ بها أحدا، لأن هناك من سيرى فيها قبساً من الواقع، وسيحاكم صاحبها بلا رحمة وبقانون أهل الصحو»، وكثيراً ما تحدث الطيّب عن «الصندوق الأسود» الذي يستخرج منه الحكايات والقصص التي يسردها، ذلك الصندوق الذي يكتنز داخله الكثير من الأحلام، ليقوم من خلال محتوياته باستكمال لعبته السردية الشائقة في مشاهد أقرب للرؤية البصرية.

عبدالوهاب العريض شاعر وصحفي سعودي