ثقافة

مقالات علي عبدالخالق دُومَه الصّحفية ودراساته النقدية تجربة رائدة في الكشف عن الشعر العُماني

04 مايو 2021
كتابات عُمانية مُبكرة بأقلام عربية
04 مايو 2021

كثيرةٌ هي الأسماء العربية التي تناولت أدبنا العُماني شعراً ونثراً، والأكثر منها تلك عاشت بيئات هذا الأدب، وشهدت منصَّات إلقائه، وواكبت إبداعه، وعرفت رموزه، و قرأت مصادره، واكتشفت اتجاهاته، وبالتالي حملت على عاتقها التعريف به في الأوساط العربية، ومن ثم نقده وتأصيله ، ومن بين هذه الأسماء المبكرة الدكتور علي عبدالخالق علي دُومَهْ الذي عمل مدرساً في بداية السبعينيات في مدارسنا العُمانية، وقد قادته رؤيته لاكتشاف هذا الأدب والسَّعي إلى الكتابة عنه بمقالات ودراسات تفاوتت بين الجانبين الثقافي والأكاديمي، ونجم عنها كتابان مهمان هما " الشعر العُماني مقوماته وخصائصه الفنية " و " الستالي حياته وشعره ".

وقد سبقت هذين الكتابين مقالاتٌ مبكرة نشرها في صحيفة عُمان في مطالع السبعينيات من القرن العشرين، كانت بمثابة التمهيد لهما، فقد وجدنا له في صحيفة " عُمان" سلسلة من منها قدَّمها تحت عنوان " موسيقى الشعر في الأدب العُماني، نشرها في خمس حلقات متسلسلة نقدّمها على النحو الآتي:-

الحلقة الأولى

نُشِرت في العدد (161) الصادر يوم الثلاثاء 25 نوفمبر 1975، ص5، حيث تناول في فاتحة مفاهيمه مصطلح موسيقى الشعر في الأدب العربي وآراء الفلاسفة والنقاد فيها ، المنظّرين الأوائل له ، وعلى رأسهم العالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي مخترع علم العروض، مركِّزاً على عنصريها المعروفين الوزن والقافية، مشيراً إلى أن هذه الموسيقى تتبدَّى في النثر الأدبي أيضاً ولا تقتصر على الشعر وحده فيما يعرف بالإيقاع الذي " هو وحدة النغمة المتكررة في الفقرات "، وتبدو هذه الموسيقى في نماذج اختارها من مدونة الشعر العُماني من مثل سينية الشيخ عبدالله بن علي الخليلي " في رثاء زنجبار " الناصّ مطلعها على البيتين التاليين:-

خليَاني عُصَارة حسّي

أحتسيها آناً وآناً أُحَسِّي

خلياني أذيبُ حباتَ قلبي

بعقيقِ الدّموع من ذوبِ حِسِّي

أو في نماذج اختارها من دواوين الشعر العربي القديم كقصيدة الشاعر الأموي " سويد بن كراع الفلكي" القائل مطلعها: -

أبيتُ بأبياتِ القوافي كأنما

أصادي بها سَرْباً من الوحشِ نُزَّعا

وينتهي الكاتبُ - في هذه الحلقة المتصلة نماذجها واستشهاداتها بالأدب العربي -إلى القول : إن الشعراء العرب في تاريخهم الطويل حافظوا في أشعارهم على وحدة الإيقاع والوزن محافظة شديدة فالتزموها في قصائدهم محافظين على وحدة الوزن والقافية، إلى أن جاء الشاعر العباسي أبو تمام فجدد القصيدة، واتخذ من فكرة عمود الشعر منهجاً في تجديده وكان حظُّ الموسيقى وافراً منه.

لقد كانت هذه الحلقة وافية لبيان أوجه التجديد في موسيقى الشعر العربي، وميزتها أن كاتبها الدكتور عبدالخالق دومه لأول من أحاط بالشعر العُماني واتخذه نموذجا في دراسة هذا التجديد وبيان أطره، ويحسب له الريادة في ذلك فلأول مرة نجد كاتبا نقديا يتعرض إلى شعر العُماني عبر نماذج الشاعر عبدالله الخليلي متصلا بالشعر العربي في مرجعياته وجذوره.

الحلقة الثانية نُشِرت في الصفحة السادسة العدد (162) الصادر يوم السبت الموافق لـ بتاريخ 29 نوفمبر 1975وأكمل فيه النماذج الشعرية المتصلة بموسيقى الشعر من خلال التجديد الذي لحقها في القصيدة العربية، ومثَّل لذلك بمقاطع من أسئلة الشيخ سالم بن حمود السّيابي التعليمية المنظومة شعرا، وأجوبة الشيخ خلفان بن جميّل السّيابي، وأخرى لأبي مسلم البهلاني:

(طنَّبت في الوادي المقدَّس خيمتي

ورعيتُ بين شعوبِهِ أغنامي)

وبمقارنة فنية بين بكائية شوقي وسينية الشيخ عبدالله الخليلي أو مرثيته لزنجبار كما تسمّى، نجد أنها لا تقل تأثيرا عن سينية شوقي؛ " لأنها كما يقول: " نفثة مصدوم وأنَّة مكلوم على جزءٍ عزيز من التراب العُماني، وفيها الصدق الفني والتصويري والواقعي " ويقفُ الكاتبُ على الظواهر الفنية بين كلتا القصيدتين تنحوان منحى التحرر من رتابة الوزن والقافية و أحيانا الحرية في زيادة أو نقصان تسكين المتحرك لمقتضيات الوزن أو تنويع الوحدات الموسيقية وفق متطلبات الإلقاء بالطريقة العُمانية، وما يقتضيه من إطالة للصوت أو تقصير له أو تغيير في النغمات أو الضغط على مخارج الحروف على نحو ما يجده الكاتب في رثائية الشيخ عبدالله الخليلي للمفتي إبراهيم بن سعيد العبري.

الحلقة الثالثة

نُشرت في الصفحة السادسة من العدد (163) الصادر يوم الثلاثاء الموافق للثاني من ديسمبر 1975م واستعرض فيها الكاتب ملمح التجديد في الشعر العُماني من خلال النماذج السابقة، وتوقّف مع نزعة "الموشحات " التي انفرد بها الأندلسيون، وانطمس رسمها في القصيدة العربية إلا القصيدة العُمانية، وفكرتها أنها ثورة على نظام الوزن والقافية، وقد نظمت أولا في البحور القديمة، ثم ما لبثت أن تحررت منها إلى بحور كثيرة تألفها الأذن .. وفي الشعر العُماني نماذج نلقاها متجسدة في قصيدة الشيخ عبدالله الخليلي، " سمراء " ذات الطالع الغزلي الشفيف:

( سَمراءُ يا زينَ المِلاحِ

ويا جمالَ الغانيات

يا كعبةَ الحُسنِ البديعِ

ويا مطافَ النيّرات)

إلى أن يقول في غصن الموشَّح :

سمراءُ يا قدَّ الرّماحِ

ويا خيال الوالهين

أنتِ الهَوى أنتِ المُنى

أنتِ المَدى للسَّابقين

وقد راوحَ فيها بين وصفين متضادين أبان فيهما محاسن الفتاة السَّمراء مقارنة بنظيرتها البيضاء التي خصّها بمقاطع جمالية واصفاً ما تتميز به:-

بيضاءُ يا نورَ الصَّبـــــــاح ويا قرينَ المُستهامْ

أنتِ الزهورُ وأنتِ روضُ الحُـــسْن باكَرَه الغمامْ

الحلقة الرابعة

نُشِرت في العدد (164) الصادر يوم السبت الموافق للسادس من ديسمبر 1975م واستعرض فيه تكملت الحلقة الثالثة، في قراءة أفقية لفن الموشحات عند الشيخ عبدالله الخليلي ولاسيَّما وصفه للفتاة الشقراء:

شقراءُ يا ذات الوشاحِ ويا مثال السَّافرات

يا جنةَ القلبِ المشُوقِ إلى الوجوه الناضرات

أنتِ الجمالُ تفلَّجتْ عنه الثنايا الباسمات.

كما تناول في هذه الحلقة نموذجا آخر من نماذج الخليلي في فن الموشّح، وقد تجلّى في قصيدة طائر الجمال، وليس جديدا في تناوله هذا عدا تمثل بمقطع مقتضب مُكَون من أشطارٍ ثلاثة هي: -

يا طائرَ الجمالِ على قُدُودِ السَّمر

رفرفْ على الدَّلال فوق الغصُون الخُضْر

تحت الهواءِ الطَلقِ

الحلقة الخامسة

نُشرت يوم الثلاثاء في العدد (165) الصادر بتاريخ 9 ديسمبر 1975 وخصصها لتناول قواعد الشعر المطلق الذي نزع إلى الاحتفاظ بالإيقاع دون الوزن أو ما يمكن تسميته بشعر التفعيلة أو بقصيدة النثر، ولعله يرى أن هذه الظاهرة جديدة على الشعر العربي وغير موجودة في الشعر العماني في الفترة المدروسة من قبله ؛ ولهذا لم يمثل لها بشيء من المقاطع الشعرية مما يدل على موقفه الرافض للتجربة الجديدة ، وهو رفض مبرر لباحث لم تحد تجربته عن فضاء المدونة التقليدية التي يتربع على قمتها الشيخ عبدالله الخليلي ...

وينتهي الكاتب في هذه الحلقة وسابقاتها إلى أن تجديد الشعر العُماني المعاصر يعود إلى " إدراك الشعراء العمانيين أن الأدب في مصر والشام لم ينهض إلا بعد أن تخطّى مرحلة السجع، وبالتالي فإن تأثيرات شعر البارودي وحافظ كانت ماثلة في دواوينهم".

إن هذه الحلقات تمثل أولى لبنات النقد الأدبي العُماني المنهجي وأولى النظرات الأدبية إليه، وقد استعرض الباحث الدكتور علي عبدالخالق نماذجه المتوفرة له في ذلك الزمن من عقد السبعينيات، ويحسب له ريادة الكتابة الأدبية الأولى في هذا الحقل الأثيري الخالص الذي تابعته عيون القراء ورصدته عقولهم عبر صحيفة عُمان الناشئة في ذلك الوقت بخطابها الثقافي الإعلامي المتشكل بتؤدة، ويتلقى بشغف من قبل القرَّاء والمثقفين على مختلف أطيافهم وميولهم.

كما تكللت هذه الجهودُ التي بذلها الدكتور علي عبدالخالق علي في تطوير هذه المقالات وإعادة صياغتها وبلورتها والإضافة عليها، وتقديمها في دراستين أكاديميتين نال إثرهما على درجتي الماجستير من جامعة الأزهر، و الدكتوراه من جامعة القاهرة، وكان عنوان الأولى " الشعر العُماني مقوماته وخصائصه الفنية" ، وقد صدر عن دار المعارف بالقاهرة سنة 1984م في 245 صفحة، وقد أبان فيه عن رؤية أدبية النقدية ، وتناول نقدي منهجي لشعر دولةٍ ظلت – أسفاً - بمعزل عن مثيلاتها العربيات لعقود كثيرة، و" وافتقرت المكتبة العربية لنماذج شعرها وأدبها ومصادر تاريخها المكتوبة رغم عمقها الحضاري واتساع حضورها الجغرافي وتوزعه بين قارتي آسيا وإفريقيا فيما عرف بشعر المهاجر الإفريقية .

وتقعُ دراسته (الشعر العُماني مقوماته وخصائصه الفنية) – كما تناولناها في كتابنا "الشعر العُماني في القرن العشرين، 1/184 " في مائتين وأربع وأربعين صفحة، وتكوّنت من مقدمة وأربعة فصول هي:

- الحياة الأدبية في عُمان. وفيها قراءة أفقية للعوامل المؤثرة في نهضة الشعر وقراءة لأنماط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في عُمان مع استحضار مكثف لرموز الشعر وأعلامه ودوره في تنمية الوجدان الجمعي لقطر تاريخي يمتد جغرافيّا من عمان إلى زنجبار.

- أطوار الشعر وبواعثه. وهي أطوارٌ ممتدة من قديم الشعر إلى أواسطه إلى أواخره أو مستحدثاته فيما سمي بشعر عصر النهضة وما رافقه من حركات التجديد والتطوير أو قل بعث الشعر وإحياءه من أشكال الضعف والركاكة والتكلف، وتحضر فيها بواعث وتأثيرات المدارس الشعرية العربية في مقارنة الأشباه بالنظائر مع إطلالة على مؤثرات وعوامل بعثه سياسيا وثقافيّا. كما تحضر في هذا السياق مراحل الشعر المنقسمة حسب العصور السياسية كالشعر القديم المنسوب إلى شعراء وأدباء من عمان حضروا في المدونة التراثية العربية وأيضا شعر دولة النباهنة وشعر دولة اليعاربة والشعر المهجري وشعر النهضة الجديدة .

- اتجاهاته ونزعاته، وهي اتجاهات تقليدية صرفة عرفت أغراض العلاقات الإنسانية والمواقف الفكرية وأشكال النزعات الفنية، وأشكال هندسة النص كانت فيها أغراض الإخوانيات والمدائح وشعر الرثاء والتأبين ولم يحضر فيها الهجاء لعدم اتساقه مع طبيعة المجتمع الذي اتسم بالتسامح ، وحب الشعر ، حتى غدا فيه خطاب حياة ورؤية واقع ناهيك عن دوره في توثيق العلوم ونظم الأصول وفكر مغازي الواقع بكل ما فيه من قضايا سياسية واجتماعية وثقافية .

- سمات الشعر وخصائصه وهي سماتٌ تندرج ضمن منظومة التأثير والتأثر بالشعر العربي مع المحافظة على الخصوصية النابعة من استجداء مفردات الواقع العُماني في كافة أطره وبيئاته ، وهي بيئات تلعب العوامل الجغرافية دورا في تشكلها.

لقد كانت دراسة الدكتور علي عبدالخالق للشعر العُماني منهجية ، فقد اتبعتْ -كما قلنا - مسلكاً يقومُ على عرض النصوص الشعرية، واستخلاص الخصائص الموضوعية والفنية منها، ومحاولة إبراز السمات العامة لكلّ عصر من العصور. ويحسب لهذه الدراسة ريادة الكتابة الأدبية الأكاديمية، فقد كانت من أوائل الدراسات التي تقدم عن الأدب العماني، أمّا أهم ما يؤخذ عليها – كما أشرنا في كتابنا الشعر العماني في القرن العشرين - أن جانبها ما يجانب الكتابات الريادية عادة من هنات بفعل عدم وجود الكتابات السابقة، وزلات بفعل عدم إدراك كاتبها بخصوصية المحيط العماني المحلي، إضافة إلى أنها أطلقت أحكاما نقدية تتسم بالجزئية والابتسار والخلط، وغياب التدرج المرحلي في التناول، المقارنات غير المتكافئة بين الشعراء العمانيين وأمثالهم من العرب فيما يشبه مقارنات الأشباه بالنظائر، وفيها تكون الغلبة للنظائر، كما أن الدكتور عبدالخالق يطوي المراحل في عبارة واحدة و لا يراعي الفوارق الخاصة بالأحداث السياسية، ولا الفارق الفني بينها؛ فهو يدرسه كوحدة واحدة لا فصل بين أجزائها مما يوقعه – أحياناً- في مغبة أحكام نقدية متسرعة؛ فهو يرى – مثلا – أن الشعر الوطني العماني انحصر في تجارب عدد من الشعراء الذين كان لهم دور بارز في حركة النهضة. والحقيقة عكس ذلك، فبعض الأسماء التي ذكرها لم يكن لها حضور سياسي إبان فترة النهضة، بل لم تشارك في تلك الحركات ولا الأحداث المصاحبة لها، وكثيرا منها تفصلها عن الأخرى سنوات كثيرة، ثم إن رؤاها الفكرية حيال الشعر تكاد تكون متباينة لاختلاف ظروف العصر، وتغاير الظروف والمعطيات، فكيف نطلق عليها نتيجة واحدة ؟!."

أمَّا دراسته الثانية فقد كانت بعنوان " الستالي (584- 676 هـ) حياته وشعره، وصدر عن دار المعارف بالقاهرة سنة 1984،في أربع وأربعين وثلاثمائة صفحة تناول فيها شعر شاعر النباهنة بصفته شاعرا مجهولا فحلا لم يكتب عنه ، وأن شعره يصدر عن ذائقة شعرية وموهبة فذة، فهو يترجم له ويرصد مظاهر شعره ويصف أغراضه واتجاهاته، وكما يقول في صفحة الغلاف " حرص على الرجوع لغابر الزمن بغية تلمس وضع شعره حيث ينبغي أن يكون، وتقريبه من ذوق القارئ لتتكشف له معانيه وتتجلى مرجعياته وتبرز مواقفه الفكرية وعواطفه الإنسانية ، حتى تأكدت له أصالته ومدى استجابته للتراث الشعري العربي في نزعاته الفنية معارضاً ومجارياً مخمساً أو مسبعاً "... غير أن هذه الأصالة لم تبرح فكرة البدايات المنهجية التي يعترف الكاتب بها ويلتمس أعذار هناتها حيث يقول ص 8 " ولئن جاءت على هذا النحو، وفي هذا الثوب، ولئن كانت أول ثمار تراث الشاعر، ولئن كانت فتحاً لآفاق مجهولة ، فلا أعتقد أن تضع الكلمة الأخيرة عن هذا الشاعر ، ذلك عطاء الأفئدة صيب مدرار يفرز جديدا ما بقيت الحياة ، وحسبي أنها بداية ... ".

ورغم كون هذه الدراسة المبكرة أكاديمية بحتة - استقصى الكاتب فيها تفاصيل حياة الستالي وعصره وطرائق نسجه وإبداعه واتباعه إلا أن الكاتب وقع في فخ المنهج التقليدي الأقرب إلى الوصف منه إلى ميزان النقد والترجيح والمقاربة، وعزز ذلك مطلب التأريخ والسرد اللذان أفاض فيهما الكاتب وبسط من خلالهما تجربته التي تحتاج – في رأينا - إلى فرز ونفض الغبار عمّا لحق بها، فبدت الدراسة متسعة الأرجاء إنشائية تمثيلية تصدر عن وثيقة تاريخية تحتاجُ إلى مراجعة تسوي فيها لوازم العلاقة الثنائية بين الأشباه بالنظائر، وذلك قدر أغلب الدراسات والكتابات المبكرة عن أدبنا العُماني.

ويبين الباحث في هذين الدراستين عن علاقة ربطته بالأدب العُماني توطدت أكثر أثناء عمله مدرساً في إحدى مدارس التعليم بولاية سمائل سنة 1974م حيث شغف حبًّا بمجالس الأدب والشعر التي كان تقيمها النخبة الثقافية في فترة السبعينيات وبالذات مجلس الشاعر عبدالله الخليلي في منزله بمحلة (السَبحية)، الذي كان يؤمّه الشعراءُ والكتاب والمثقفون ومتذوقو الأدب والشعر وقراؤهما، وقد تجلت هذه العلاقة الحميمة فيما استشهد به في طالع الكتاب الأول أعني (الشعر العُماني مقوماته وخصائصه الفنية) من مقطع انتقاه موفقا من مدونة شعر عُمان في العصر الإسلامي وهو لسوار بن المضّرب السعدي القائل:

أحبُّ عُمان من حُبي سُلَيمى

وما طبّي بحُبِّ قُرى عُمان

علاقةَ عاشقٍ وهَوىً مُتاحاً

فما أنا والهَوى مُتدانيان

تذكّرُ ما تذكّرُ من سُلَيمى

ولكنَّ المَزارُ بها نآني

فلا أنْسى لياليَ بـ ( الكَلَندى)

فنينَ ، وكلُ هذا العيش فان

ويوماً بـ (المجازة) يومَ صدقٍ

ويوماً بين (ضنكَ) و(صومَحان)

وفي الصفحات الأولى من كتابه (الستالي حياته وشعره) يقع الدكتور علي عبدالخالق على عيون شعر هذا الشاعر، ليكون مفتاحاً لشخصيته ذات الوجد الرومانسي:

ولله صبري .. أيُّ وَجْدٍ أكنَّه

وشوقٍ عليه باطنُ القلبِ مطبقُ

وزدتُ على أهلِ الهوى بغرائبٍ

لقيتُ بها في الحُبّ فوق الذي لقوا

فلو أن في عَصْري ( جميلَ مُعمّرٍ)

تشكَّى الهَوى علَّمته كيف يعشقُ

ورغم بدايات هذه الكتابة المبكرة إلا أن الكاتب الدكتور علي عبدالخالق كان حذرا من التصريح بمكانة هذا الشاعر بل والاحتفاء به، فهو يشير إليه من بعيد في ثنايا مقدماته ويصفه بأن شاعر من الخليج غير مجاهرٍ بعُمانيته ولا معتدٍ بها ، ويصفه - في انتقاص شديد - أن مكانته لا بأس بها بين فحول الشعر العربي القديم حتى لا يؤخذ عليه مجازفة الأحكام النقدية، ولعله في ذلك واقعاً تحت سيطرة النقد الأكاديمي الصارم الذي لا يريد أن يثبتَ البراعة كلها، على حساب القيمة النسبية للأعمال الأدبية ، وكان حريا به أن يحتفل به ويقدّمه باعتداد كونه أول شاعر عُماني تقام عنه دراسة أكاديمية في رحاب مؤسسة أكاديمية مرموقة كجامعة القاهرة.

وتنسجمُ هذه الصفة الخَجْلى مع ما طرحه في مقدمة كتابه حين أسقط على شاعره " الستالي" عنوة فكرة الخليجية العامة دون أدنى تبرير، فكأنه يغازل أدب منطقة له فيها مآرب أخرى فترى مقدمته ملأى بعبارات وبلوازم من مثل ( مرَّ على الأدب الخليجي حين من الدهر ...ولقد أتيح لي الاطلاع على الأدب الخليجي ... وتجيء هذه الدراسة ضمن سلسلة من البحوث عن التراث الأدبي الخليجي ..استطاع أن يملأ فراغاً واسعاً في منطقة الخليج العربي ) وكان حريًّا به أن يستبدل لازمة الصفة (الخليجية العامة) بالعُمانية الخالصة؛ لأن كتابه ليس فيه شيء عن الخليج إطلاقاً وهو مختصٌ بشعر الستالي العُماني، فلماذا هذه اللوازم غير الدقيقة في عمل أكاديمي صرف يفترض تسمية الأسماء بمسمياته. ولو قال عنه " شاعر عربي لكان أفضل وأدق " ولكنها شهوة التطلع الخارجة عن سلامة الفهم الدقيق.

ورغم ذلك تأتي دراسة الدكتور علي عبدالخالق لهذا الكتاب من منطلق الكتابات المبكرة عن شخصية شعرية عُمانية – ولها قيمتها في هذا الإطار وقد بذل جهدا في إبرازها وتصنيف شعرها ووضعها في مكانها النقدي تحليلا ونقدا بمنهج واضح ورؤية محددة، فيقسمها إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة اختصت المقدمة بثوابت العناصر المفترض أن تكون عليها وخاصة إظهار سبب اختيار البحث وأهميته ومنهجه وطريقة دراسته ، أما الفصل الأول فقد خصصه لتجلية " ملامح حياة الشاعر وسمات عصره، عرض فيه ما تيسّر له من معلومات تاريخية عنه، وجاء فصله الثالث ليتناول أغراض شعره واتجاهاته ومعارضاته لشعر سابقيه، وفي الفصل الرابع عني بخصائص شعره الفنية، وجاءت خاتمته بإيجاز نتائجه التي لا نراها وافية في حق شاعر كبير ويعود ذلك لطبيعة المدرسية التي اعتمدها الباحث في منهجيته لمعالجة شعر الشاعر.

وأخيرا فكتاباتُ الدكتور على عبد الخالق ومقالاته وأطروحاته متسعةَ الأرجاء كبيرة القيمة، مفيدة في حقلها، مبكرة في سياق تاريخ النقد العُماني الذي جاء بعدها وبدا أكثر تخصصاً، وبالتالي تعدّ تلك الكتابات مصادر ومراجع لما جاء بعدها ، فقد اعتمدت عليها جُلُّ أطروحاتنا الأكاديمية وكتبنا الثقافية، وكانت خير معينٍ لنا في حياتنا العلمية وتخصصنا الأدبي.