محمد العرادي
محمد العرادي
ثقافة

محمد العرادي: القصة القصيرة جدا صارت فنا مبتذلا!

08 فبراير 2023
يعتبر نفسه قارئا بالدرجة الأولى:
08 فبراير 2023

- الناشر يُفضّل الرواية متوسطة المستوى على القصص الجيدة

- لا أعتبر القصة تمرينا ممهدا لكتابة الرواية

- أوظف في نصوصي أزمات منقولة عن كتّاب أوروبيين

- لا حرج على الكاتب أن يحاول تقليد من يقرأ لهم

- أول كتب قرأتها كانت روايات أجاثا كريستي

- عندي تطلّع دائم لاستخدام المنجز الفني العربي في قصصي

- أحاول أن أبتكر وأجرب تقنيات غير تقليدية

- مهما كان التجريب مدمرا ومزعجا وعابثا فإن وجوده مهم

احتاج الكاتب السعودي محمد العرادي عشر سنوات كاملة لينجز مجموعته القصصية "لماذا يظن الجندي غير المجنون أنه كلب؟"، ولهذا تبدو هناك تفاوتات ملحوظة في تقنيات كل قصة عن الأخرى، والملاحظة المهمة أن العرادي مولع بالتجريب لدرجة أنه يجعل الهوامش جزءا من النص، كما يشطب على بعض الكلمات إشباعا لهوايته في اللعب.

يعد محمد العرادي -برغم ندرة كتاباته- واحدا من القصاصين السعوديين الذين يُنظر إلى تجربتهم باهتمام، وهذا الحوار يبدأ بمناقشته حول مجموعته ثم يحاول التفتيش في عقله عن سبب قلة نشره، وابتعاده عن الوسط الثقافي، ونظرته إلى القصة والرواية وسوق النشر وغيرها من القضايا.

- ينفي البطل في قصة "التماسيح" أن يكون بيته رمزا لفلسطين وأن الرجل الذي دخل حمامه من فتحة الصرف استعارة عن دخول عصابات الهاغناه الأحياء العربية في حيفا، ومع هذا يمكن قراءة القصة عكس تفكير البطل، أي أن رمزية فلسطين حاضرة فعلا.. ما رأيك؟

• قد يكون، لأن نفي الأشياء في بعض الأحيان إثبات لحضورها، إذ النفي تفكيرٌ في الشيء. وربما يكون لعبا من الراوي للتشويش على القارئ وصرفه عن التفكير في التأويل الذي يبدو بديهيا في سياق تلك القصة، حتى في خاتمة القصة يقول الراوي: "حينما حكيتُ هذه القصة للمرأة التي تنام بجواري..." وكأنه يُخرِج المرأة من القصة التي شاركت في كل أحداثها ويروي لها القصة وهي تجيبه وكأنها متلقية خارجية مثل أي قارئ آخر، حيث لا وجود للهاغناه بالنسبة إليه إلا في داخل القصة، بالتالي تبدو القصة مثل دوران مدوّخ تتداخل فيه الأوهام والمخاوف والواقع، دوران يبدأ من ذلك الصوت المدوي وينتهي إليه.

لم أفكر في القصة بالأساس باعتبارها استعارة عن دخول عصابات الهاغاناه لحيفا، كنت أحاول أن أبحث في مساحة التقاطع بين المعيش اليومي والحدث التاريخي، وأثر هذه الأحداث على ذاكرتنا وكوابيسنا وحركتنا داخل الواقع اليومي البعيد عن تلك الأحداث لكنه ليس بعيد عن أثرها، أظن أن كل الأحداث التاريخية الكبيرة الموجودة في تاريخنا السياسي والاجتماعي لها وجود في هويتنا الفردية بطريقة ما ولها تأثير مهم في حياتنا وإن لم نتنبه له.

- قصة "الحياة في درج موظف متمهل" تدور حول شخص مُسجَّل في النظام أنه متوفَّى.. فهل يمثل هذا الشخص آلاف البشر الذين يعيشون شبه أموات في مجتمعات تتعامل معهم باعتبارهم مجرد أعداد؟

• أحد تعريفات الصهيونية التي قرأتها عند عبدالوهاب المسيري أنها حركة لتخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي عن طريق نقله إلى مناطق خارج أوروبا، وهذا يشبه ما حدث معي في هذه القصة، حيث وجدت نفسي أوظف في نصوصي القصصية أزمات لا تخصني بل هي منقولة عن كتّاب أوروبيين، أي أنني تبنيت منظورا غيريا عن العالم من خارج العالم الذي أتفاعل معه وأفهمه، لا أنكر أن أزمات الإنسان تتشابه من وجوه ظاهرة وخفية وقد تتطابق في بعض الأحيان بحكم التداخل السياسي والاقتصادي وتشابه أنماط المعيشة، لكن لا أعتقد أننا جربنا بيروقراطية مثل تلك التي كتب عنها "كافكا" بصدق، هذا النص كان محاكاة رديئة لطريقته في الكتابة، لا حرج على الكاتب أن يحاول تقليد أو الاستفادة من الكتّاب الذين يقرأ لهم، فكل تجربة سردية تحمل في داخلها تجارب كتّاب آخرين، لكن الحرج في المحاكاة وتبني رؤية غيرية عن الذات والعالم، دون بذل أدنى مجهود في محاولة إيجاد صوت ورؤية خاصة، وتطلّع إلى مقاربة أزماتنا والتفكير فيها عوضا عن استيراد أزمات وأسئلة قد تكون غير مهمة لنا. لم أحذف هذا النص من المجموعة عند إعدادها لأني أردت أن تكون تلك المجموعة شهادة أمام نفسي والقارئ المهتم على تلك التحولات في تجربتي السردية.

- لماذا يبدو العالم أفرنجيا في بعض القصص مثل "تداعيات حادث سير" حيث المتاجر ذات أسماء أجنبية، وحيث ورشة إصلاح السفن وحيث الكتابة أقرب إلى كتابة غربية، وكذلك قصة "فولمير بريخت" الأربعيني الأعزب الذي يسكن شقة متواضعة في وسط برلين؟

• لم يكن في بيتنا في تلك السنوات سوى كتاب رياض الصالحين وبعض المجلات الفنية التي كانت رائجة حينها، ولا أدري كيف بدأت القراءة إلا أني أتذكر أن أول الكتب التي قرأتها كانت روايات "أجاثا كريستي" التي كانت تباع في متاجر بيع الأدوات المدرسية، ثم انطلقت في قراءة الروايات المترجمة قبل أن أعرف الروائيين السعوديين والعرب فضلا عن القراءة لهم، ودون أن يكون عندي إدراك لموقع تلك الروايات المترجمة في الأدب ولم تكن قراءاتي منظمة ولا تتبع أي منهج واضح، كنت مستمتعا بعفوية الاكتشاف ومنغمسا ومنبهرا بتلك الأعمال التي أقرأها. فيبدو لي أن هذا أوجَد في نفسي تصورا عن الفن الروائي وعن طبيعته وأساليبه تجلى فيما بعد عندما جرّبت الكتابة بدوري، كان عندي وهم ساذج بأن النص الجيد هو النص الذي يشبه تلك النصوص التي كنت أقرأها، حتى اللغة التي اكتسبتها تشبه لغة المترجمين التي كنت أظنها لغة الكاتب الأصلي.

- هناك تفاوت في أسلوب قصص المجموعة.. هل هذا يعود إلى كتابتها في فترة زمنية طويلة؟

• أخذت مني هذه المجموعة القصصية مدة عشر سنوات من الكتابة، بدأت الكتابة في الإنترنت عندما كانت المنتديات المهتمة بالسرد نشيطة ورائجة أفضل من أي مجلة أو صحيفة أدبية مطبوعة، وما كنت أكتب لأجل الطباعة، أي أنني كنت أتعلم وأجرب نفسي في الكتابة في الوقت نفسه، وكنت أحاول أن أجرب وأكتشف في كل مرة أساليب وأنماط كتابة جديدة، فتجربة السنوات العشر تلك كانت مثل ورشة عمل دائمة الانعقاد حصيلتها النهائية هذه المجموعة القصصية، لم تكن فكرة الطباعة حاضرة في البداية، كانت فكرة لاحقة للكتابة بعد أن صار عندي ثقة -على الأقل- ببعض ما كتبت، فانتخبت من تجربة تلك السنوات القصص التي كنت راضيا عن مستواها الفني، لذلك قد تجد تفاوتا في المستوى الفني بين القصص وتعددا في الأساليب، على أنني لم أرتب القصص في المجموعة ترتيبا تاريخا بل جعلت القصص موزعة دون ترتيب، لأني لم أُرِد أن أُحدِث لدى القارئ مقارنات بين النصوص التي كتبتها في البدايات وتلك التي كتبتها في المراحلة المتأخرة القريبة من مرحلة الطباعة.

- مصر حاضرة بقوة في قصص المجموعة.. ما السبب؟

-

• في المجموعة حضور لشخصيات ووقائع من العراق والكويت والأردن والجزائر، أزعم أنني منفتح قدر استطاعتي على تلقي الثقافة العربية في عمومها، خصوصا في الأنماط الموسيقية والتمظهرات المختلفة في الغناء الشعبي، ويظهر هذا في بعض قصص المجموعة مثل حضور الفنان خالد الملا والسمرات الكويتية في قصة "مساوئ حياة سعيد عبدالله"، وسيظهر بشكل أكثر في مشروع قادم ما زلت أعمل عليه، حيث تحضر فرقة ناس الغيوان المغربية في نصين قصصيين.

عندي تطلّع دائم لاستخدام التاريخ والمنجز الفني العربي في قصصي؛ لأني أشعر أن لي في تلك الأحداث وذلك المنجز الفني مثل الذي لأي عربي في أغاني أم كلثوم.

أعتقد أن ثقافاتنا المحلية -إن جازت التسمية- متداخلة أكثر مما نتخيل بحكم اشتراكنا في اللغة والمخيال وتأثير هجرات القبائل العربية... إلخ. إضافة لما لمصر من أثر ثقافي بارز في كامل الوطن العربي من خلال روّاد الأدب والسينما والإنتاج الثقافي المصري عموما.

- لماذا استخدمت تقنية الشطب على بعض الكلمات في قصة "مساوئ حياة سعيد عبد الله"؟

• في هذه القصة حضور غير معلن لتأثير العنصرية على حياة السود، تتتبع القصة حياة سعيد عبدالله من خلال تاريخ جلوسه، الأماكن التي جلس ونام وتمدد فيها. تنبني القصة على استخدام قدرة المكان على الكشف، لا ينحصر المكان في القصة باعتباره حيزا فيزيائيا تتحرك فيه الشخصيات، بل هو حيز معبر وذو دلالة، أن تنام على سرير يختلف عن معنى نومك على الأرض، أن تجلس داخل غرفة وكيل المدرسة يختلف عن معنى وقوفك خارج غرفة الوكيل. يرافق هذا التتبع التاريخي لحياة سعيد عبدالله بحث عن أثر سواد بشرته على حياته، من هنا أردت أن يكون لأثر هذا السواد حضور مادي في القصة، فمن البداية يُشطب اسم عائلة سعيد وتُشطب كثير من أسماء الأعلام وأسماء الإدارات والمواقع التي عمل أو درس بها أو زارها، أي: يُشطبُ جزءٌ غير قليل من تاريخ سعيد عبدالله. قد لا أكون موفقا باستخدام هذه الطريقة للتعبير عن هذا المعنى، لكنني أحاول أن أبتكر وأجرب تقنيات غير تقليدية.

- في بعض القصص ملت إلى التجريب.. وفي قصة "أيام الحياة الطبيعية التي يقولون عنها" جعلت الهوامش جزءا من القصة لا يمكن فهمها بدونها.. ما الذي يمنحه التجريب لك؟

• لو بحث مهتم عن تعريف لمصطلح الرواية عند كل النقاد وفي كل كتب النظرية الأدبية فلن يصل إلى تعريف قادر على استيعاب كل التجارب الروائية، الرواية فن واسع إلى درجة غير محدودة ومتطور جدا، وما إن تستقر الرواية في جيل ما على نمط إلا ويأتي الجيل اللاحق، وينقض هذا النمط المستقر، ويؤسس تجربته الخاصة. التجريب هو محاولة التجاوز هذه، هو البحث عن مساحات جديدة داخل السرد.

فهم هذا المعنى عن السرد مهم للكاتب حتى يعطي نفسه الفرصة لمحاولة الاستفادة من إمكانيات الرواية، ويخوض تلك المغامرة الساحرة التي تشبه حينا اللعب بالمكعبات حينما يركّب الطفل شيئا لا يدري ما هو، وتشبه حينا العمل الجاد الذي يقوم به مهندس بناء بارع. على أني مدرك أن بعض التجريب في الرواية العربية أو في الأدب غير العربي قد ينحو إلى ابتكار أساليب تجعل النص منغلقا، ويعسر التواصل معه، لكن مهما كان التجريب مدمرا ومزعجا وعابثا فإن وجوده مهم لاستمرار وتوسيع النص الروائي. ليس السؤال عن الرواية ولكن الجواب ينسحب على القصة القصيرة أيضا.

- ما الذي تجده مختلفا بين كتابة القصة الطويلة والقصة القصيرة جدا التي أنهيت المجموعة بعدد منها؟

• لا أخفيك أنّي نادم على كتابة القصة القصيرة جدا، لكنّي لست نادما على نشر تلك القصص القصيرة جدا في المجموعة، وأظن أنها جيدة فنيا إلى حدٍ ما. أجد أن فن القصة القصيرة جدا صار -للأسف- فنا مبتذلا يستسهل الكتّاب -ولعلي منهم- كتابته، بسبب طبيعته. ولو اطلعنا على عدد من التجارب في كتابة هذا الفن لوجدنا القصة تختلط باللغز والنكتة والحكمة، لهذا صار يبدو فنا غير جاد، ولا يستحق جهد الكاتب ولا وقت القارئ، برغم وجود كتّاب يكتبون القصة القصيرة جدا بوعي وجمالية عالية.

- ننتقل إليك.. لماذا تبدو منعزلا وغير مكترث بالتواجد في الساحة الثقافية العربية وكذلك بالحضور الإعلامي؟

• لم أفكر من قبل بهذا المعنى، ولا أدري إن كان على الكاتب أن يتخذ بعض الإجراءات -على أنّي لا أدري ما هذه الإجراءات- لأجل أن يكون حاضرا إعلاميا أم يترك الأمور تسير بتلقاء نفسها. لا أقول إني غير مهتم أو مهتم بالحضور أو المشاركة في الحياة الأدبية، أقول إن ما أدريه أنّي منتبه وحذر من مضامين خطاب تسويق الذات وهذه الأجواء المريبة التي يُراد للكاتب أن يُساق إليها بضغط من السوق أو طموح لتحقيق مكاسب ما. أزعم أني قارئ بالدرجة الأولى وإن كتبت قصة فإني أبحث عن منصة للنشر أو أنشرها في المدونة الخاصة بي، ثم أعود للقراءة، وإن كان عندي ما أقول فإني أجعله في القصص التي أكتبها. لذلك لا أجد في نفسي رغبة كبيرة في الأشياء التي تحدث حول وعلى هامش القراءة والكتابة وإن وجدت ما يستحق فلن أتأخر، فقد شاركت في بعض الفعاليات الثقافية التي دُعيت إليها، من قِبل هيئة الأدب والنشر والترجمة، ولم أتردد في قبول هذا الحوار معك.

- من هم كتّاب جيلك ومن الأقرب إلى ذائقتك جماليا؟

• ذكر أسماء دائما ما يستصحب فوات ذكر أسماء أخرى، لكن بالنسبة لي فمجموعة القاص والروائي السعودي أحمد الحقيل "بيت" والكتاب السردي للكاتبة العمانية أمل السعيدي "مدخل جانبي إلى البيت" إصداران مهمّان في الخليج والوطن العربي.

- هل ترى أن القصة القصيرة مظلومة بشكل ما عربيا؟

• ليس عندي الاطلاع الكافي لأخوض في جواب هذا السؤال، لكنّي مطّلع على بعض التفاصيل التي تسمح لي أن أقول إن الناشر يفضّل نشر الرواية المتوسطة في مستواها على المجموعة القصصية الجيدة.

- هل فكرت في كتابة الرواية؟

• إلى لحظة كتابة هذا الرد لم أفكّر في كتابة الرواية، أنا مستمتع بتجربة كتابة القصص الطويلة ولا أحب أن تبدو القصة باعتبارها فنا ممهدا لكتابة الرواية. يمر بي كثيرٌ من التعليقات التي تربط القصة القصيرة بالرواية، إذ تظهر الرواية وكأنها هي العمل الجاد والقصة القصيرة تمرين على هذا العمل الجاد.

- أخيرا ما عملك القادم؟

• أعمل على مشروع من ثلاث قصص طويلة، أنجزت القصة الأولى بعنوان (قلق فوات الفرص السانحة) ونشرتها في منصة "روي" الإلكترونية، وأعمل حاليا على إنجاز النص الثاني الذي أظن أنه سيخرج بعنوان «مكافحة الدبابات»، في هذه القصص أعطيت مساحة كبيرة للتجريب والتلاعب في الشكل السردي من خلال استخدام الهوامش الجانبية، والاقتباسات، وحبكات صغيرة غير متجانسة عوضا عن الحبكة التقليدية، وأظن أنّي وجدت صوتي الخاص في هذا المشروع أو اقتربت من ذلك، وإن أنهيت هذا المشروع سأقدمه للنشر.