ثقافة

تساؤلات واقعية حول «ما وراء النيّة» لإقامة «الصناعات الإبداعية والثقافيّة»

25 يناير 2022
25 يناير 2022

لا يخفى على أحد من المطّلعين والمهتمين بقطاعي الاقتصاد والثقافة -تحديدًا- الدور الكبير والمتنامي الذي كانت وما زالت تلعبه «الصناعات الإبداعية والثقافية»، باعتبارها أحد الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها «الاقتصاد المعرفي والابتكاري» حول العالم، ومدى مساهمتها -بصورة طردية مع الثورات الصناعية المتتالية والتقدم العلمي والتقني- في الجوانب «الاقتصادية» كقيمة مضافة في الناتج المحلي الإجمالي للدول وتنويع مصادر دخلها، و«الاجتماعية» كإيجاد وتوليد ملايين الفرص الوظيفية التي تعزز بشكل مباشر من استقرار المجتمعات البشرية والاندماج فيما بينها، و«السياسية» مع توجّه الكثير من الدول في العقود الأخيرة إلى التسلح بـ «القوة الناعمة» التي أصبحت «تؤتي ثمرها» أكثر من الأسلحة التقليدية كما يؤكده التاريخ الحديث، و«الثقافية» كون هذه الصناعات تعد المحرك الرئيسي لبث الوعي في المجتمعات ورفع مستويات التعليم فيها وتحقيق الرفاه المنشود لسكّانها، وغيرها من العوائد الإيجابية الظاهرة للعيان في جوانب متعددة ولا يتسع المجال لذكرها هنا.

ورغم أن الإيمان بأهمية قطاع «الصناعات الإبداعية والثقافية» والمفاهيم المرتبطة به قد نشأ وترعرع ونضج وأثمر في الكثير من الدول حول العالم منذ مدة ليست بالقصيرة وقُطعت فيه مسافات طويلة، إلا أن الحديث عنه والالتفات إليه بصورة موسعة نشط فقط في الآونة الأخيرة على الصعيد المحلي وبين شرائح مختلفة من المجتمع عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والحضور المجتمعي، ومن وجهة نظري، أعتقد أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو تضمين هذا القطاع المهم في الخطط والاستراتيجيات الوطنية الحالية والمستقبلية في سلطنة عمان خلال السنوات القريبة الماضية -وهي خطوة أولى في المسار الصحيح- ففي وثيقة رؤية عمان 2040، نجد أن أحد أهداف أولوية «المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية» هو «استثمار مستدام للتراث والثقافة والفنون يسهم في نمو الاقتصاد الوطني»، في حين أن المحور الثاني من «الخطة التنفيذية للاستراتيجية الثقافيّة 2021 – 2040»، والمتمثل في «الصناعات الإبداعية الثقافية» يهدف إلى «تعزيز المساهمة الاقتصادية للقطاع الثقافي، وتقديم التسهيلات للمشاريع في مجال الصناعات الإبداعية، وتعزيز الوعي بأهمية الاستثمار في المجال الثقافي، ودعم وتشجيع الاستثمار في مشاريع ثقافية إبداعية مستدامة»، أما البرامج الثمانية من مبادرة وزارة الاقتصاد في تحفيز قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي أعلن عنها العام الماضي 2021، فقد تضمّنت برنامج «حاضنة الصناعات الإبداعية»، والذي يهدف إلى «تمكين 25 مؤسسة صغيرة ومتوسطة وإيجاد مجموعة من الشركات الناشئة ذات قدرات فنية وإدارية عالية في مجال الصناعات الإبداعية، وتقديم الدعم الفني والخدمات اللازمة التي تحتاجها هذه المؤسسات من خلال التوجيه والإرشاد والاستشارات، وبالتالي الإسهام في إحداث فرص عمل من خلال تطوير هذا القطاع»، بالإضافة إلى حراك ملحوظ ومبادرات مختلفة في هذا الجانب من القطاعين العام والخاص، وكذلك من المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني، و«لكن» مع كل هذا النشاط والتوجّه المقدر والمبهج في آن واحد، والذي أعدّه النيّة التي تسبق العمل والانطلاقة الحقيقية نحو تفعيل هذا القطاع والاستفادة من الاستثمار فيه، إلا أنه تتبادر إلى الأذهان مجموعة من التساؤلات حول مدى جدّيتنا (جميعاً وليس جهة أو شخصية معينة) في تبنّي الصناعات الإبداعية والثقافية وحجز حصة عمانية من «إيرادات هذا القطاع العالمية التي تصل سنوياً إلى 2.250 مليار دولار أمريكي، وصادراته التي تزيد عن 250 مليار دولار أمريكي، وفرصه الوظيفية التي تصل إلى 30 مليون وظيفة حول العالم»، (بحسب تقرير اليونسكو الدولي «إعادة النظر في السياسات الثقافية» لعام 2018)، ومن أبرز هذه التساؤلات:

• هل توجد لدينا قاعدة بيانات «رسمية» توفّر إحصائيات ومؤشرات «دقيقة» حول حركة الصناعات الإبداعية والثقافية في سلطنة عمان مثل حجم مساهمتها في الناتج المحلي، وقيمة إيراداتها وصادراتها وأرباحها، وأماكن تركّزها بحسب كل مجال، السلع والخدمات الإبداعية الأكثر/الأقل استهلاكاً محلياً/خارجيا....إلخ على الأقل في آخر (10) أعوام؟ فبدون وجود مثل هذه القاعدة (الأساس)، سيكون من الصعوبة بمكان البناء استناداً على التوقعات أو الدراسات المستوردة التي غالباً ما تبتعد عن ملامسة الواقع العماني وتطلعاته. (فعلى سبيل المثال: اختتمت الأسبوع الماضي «أيام تواصل المسرحية» التي نظمتها فرقة تواصل المسرحية وقدّمت من خلالها على مدار 6 أيام مجموعة من الأعمال الفنيّة، السلع والخدمات الإبداعية التي حظت بإشادة من المختصين وإقبال واسع من المتابعين/ المستهلكين، ولكن مع انتهاء هذه الفعالية، هل تم ربط مخرجاتها من الإحصائيات والمؤشرات المذكورة في السؤال أعلاه بقاعدة بيانات تضم جميع الفعاليات المشابهة التي تقام خلال مدة معينة، حيث إن محصلة هذه البيانات ونتائج تحليلها تساعد بكل تأكيد على تنمية المسرح وتطويره كصناعة إبداعية بصورة خاصة وفن جماهيري بصورة عامة)، قس على ذلك بقية الفعاليات والأنشطة التي تندرج تحت مفهوم الصناعات الإبداعية والثقافية (ذات الصبغة التجارية) التي تقام في سلطنة عمان.

• هل توجد لدينا «جهة مركزية واحدة» سواء أكانت حكومية، أو خاصة، أو شراكة بين عدة قطاعات، أو شركة...إلخ، تقوم بالإشراف «التام» على قطاع الصناعات الإبداعية والثقافية وتعزز من مكتسباته؟ فأهمية وجود مثل هذه الجهة تتجلى في سببين رئيسيين، أولهما حجم هذا القطاع الكبير جداً وتعدّد مجالاته وتشعّب رأس المال البشري فيه، الأمر الذي يستحيل استيعابه من خلال فريق وزاري أو قسم في هيئة حكومية أو دائرة في مؤسسة عامة...إلخ، وثانيهما سيكون من البديهي أن توحيد الجهود في جهة واحدة تضم أصحاب التخصص في إدارتها وتتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية سيمنح هذا القطاع تركيزاً أكثر ونتائج أفضل من تشتيتها هنا وهناك، علاوة على أن هذه الجهة ستقوم بـ «تنظيم» عمل هذا القطاع من خلال القوانين والتشريعات التي تسنّ له، و«تمويل» مشاريع الصناعات الإبداعية والثقافية أو البحث لها عن جهات تمويلية أو شركاء ومستثمرين، و«تسويق» المنتجات والسلع الإبداعية محلياً وخارجياً -إذا ما علمنا أن السوق المحلية صغيرة نوعاً ما ومن الضروري البحث عن أسواق خارجية- أضف على ذلك ضرورة وجود مجموعة من الفنيين والإداريين إلى جانب المشتغل في الصناعات الإبداعية والثقافية، كون الأخير غالباً ما يحتاج إلى التفرّغ التام والتركيز على إنتاج سلعته «خدمته الإبداعية» وليس لديه الكثير من الوقت والخبرة الكافية لإنجاز الأعمال المكتبية والروتينية المرتبطة بمشروعه.

• هل توجد لدينا «مدينة الصناعات الإبداعية والثقافية» المهيأة بالبنية الأساسية المناسبة والمحفزة على نجاح هذا القطاع وازدهاره؟ فمع اكتمال البنية الأساسية والمشاريع التنموية في مختلف المحافظات خلال الخمسين سنة الماضية، وعلى غرار وجود مدن للصناعات التحويلية ومناطق للتجارة الحرة وأخرى اقتصادية وتقنية، أصبح من الضروري إيجاد مدينة متخصصة لتوطين الصناعات الإبداعية والثقافية يتم تجهيزها بكافة المتطلبات والاحتياجات المتعلقة بصناعات النشر، والتصميم، والسينما، والموسيقى، والأفلام، والفنون، والحرف، والآداب، والمسرح، وغيرها من المجالات التي تقع تحت مظلة الصناعات الإبداعية والثقافية، حيث تستهدف هذه المدينة «الطبقة المبدعة» من المجتمع -وهي حجر الأساس لهذا القطاع- الراغبة في البدء بالاستثمار، والتي قد تمتلك الموهبة «المهارة الفردية والجماعية ولكنها غير قادرة على ترجمتها إلى سلعة» خدمة إبداعية بسبب عدم توفر البيئة المجهزة والمناخ الملائم والأدوات اللازمة لعمليات التشغيل الإبداعية، كما أن لهذه المدينة أهمية أخرى من حيث إيجاد تجمعات إبداعية تعمل على إيجاد ائتلافات تجارية وعناقيد صناعية في هذا القطاع تعظّم من فوائده وعائداته.

• هل توجد لدينا القوانين والتشريعات المُحدَّثة والمتوائمة مع الطفرات والتغيرات الكبيرة والمتسارعة التي طرأت/تطرأ على الركائز التي تستند عليها الصناعات الإبداعية والثقافية مثل: بيئة الاستثمار، وتقنية المعلومات، والبحث العلمي، واقتصاد المعرفة، والاقتصاد القائم على الابتكار...إلخ؟ فهناك الكثير من القوانين والتشريعات التي تتداخل مع الصناعات الإبداعية والثقافية بصورة مباشرة وتحدد مسارها (على سبيل المثال وليس الحصر قانون الرقابة على المصنفات الفنية، وقانون المطبوعات والنشر، وقانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، وقانون حقوق الملكية الصناعية، وغيرها)، وبمجرد معرفتنا أن الكثير من هذه القوانين قد صدرت قبل الألفية الجديدة، سندرك حجم التحديات التي تشكلها على الراغبين في الاستثمار في الصناعات الإبداعية والثقافية، ليس فقط لأنها كثيرة ومعقدة وتشرف عليها جهات ولجان مختلفة (موجودة وملغية)، بل حتى أنها لا تتناغم بصورة كلية مع الاتفاقيات الدولية التي وُقّعت في هذا الجانب، فعلى سبيل المثال، انضمت سلطنة عمان إلى اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي عام 2007 -أي بعد سنوات من صدور القوانين التي ذكرت ولم تذكر أعلاه- وبحسب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فقد «وضِعت الإمكانيات التي توفرها الصناعات الإبداعية والثقافية في صميم هذه الاتفاقية عبر تمكين الفنانين، والمهنيين والممارسين العاملين في مجال الثقافة، وسائر المواطنين من ابتكار مجموعة واسعة من السلع والخدمات والأنشطة الثقافية وإنتاجها ونشرها والتمتّع بها».

• هل توجد لدينا الحوافز والتسهيلات الجاذبة والمشجّعة على قيام الصناعات الإبداعية والثقافية واستدامتها؟ وبالأخص المقدمة لـ «الطبقة المبدعة» وأصحاب رؤوس الأموال الراغبين بالاستثمار في هذه الصناعات، فمن خلال تتبعي وملاحظتي الشخصية للطبقة المبدعة في سلطنة عمان -أصحاب المواهب والمهارات المتعلقة بالصناعات الإبداعية- أجد أن غالبيتها من الموظفين/الموظفات في القطاعين العام والخاص -الحديث هنا عن مرحلة ما بعد التعليم الجامعي- وتكون هذه الوظيفة بمثابة مصدر دخلهم الوحيد، وهذا يعني أنه ليس من السهولة التفرغ وتحويل إنتاجهم الإبداعي إلى مشروع تجاري ما لم تكن هناك استثناءات مغرية تدفعهم لدخول التجربة والمغامرة وخوضها سواء بإنشاء مشروعهم الخاص أو المشاركة الجزئية في مشاريع إبداعية، وفي المقابل يحتاج المستثمرون من أصحاب رؤوس الأموال إلى حوافز وتسهيلات ولوائح استثمارية خاصة بالصناعات الإبداعية والثقافية تختلف عن تلك المقدمة للقطاعات الصناعية الأخرى، وذلك بسبب الاختلاف الكبير في طبيعتها ونوعية وأجور العاملين فيها، وأدوات التصنيع بها، والمستهلكين لمنتجاتها، والضرائب المفروضة...إلخ، حيث إن الهدف ليس فقط إقامة مثل هذه الصناعات، وإنما ضمان استدامتها على المدى الطويل واعتمادها كمصدر دخل ثابت في الاقتصاد الوطني.

• هل توجد لدينا الإمكانيات التعليمية والتأهيلية القادرة على الاستمرار في رفد الصناعات الإبداعية والثقافية بكوادر مُتمكنة من العمل والإنتاج في هذا القطاع؟ ليس فقط الكوادر التي تشكّل نواة «الطبقة المبدعة» وإنما تلك التي تقوم أيضا بتوليد الأفكار المبتكرة وإيجاد المحتوى المتفرد وإيجاد البرمجيات المساندة لهذه الصناعات، كما أن عمليات التشغيل فيه تحتاج إلى الإدارة البشرية والمالية والمبيعات والتسويق وغيرها من الأمور التي تتطلب فهم هذه الصناعات والوعي بمجالاتها المختلفة، في حين أن إيجاد «طبقة مبدعة» بصورة مستمرة على المستوى الوطني يحتاج إلى عمليات تعليمية وتأهيلية مكثفة تبدأ من التعليم الأساسي ولا تنتهي عند الدراسات العليا فقط، بل توسيع دائرة التخصصات المتاحة في الكليات والجامعات حالياً، والانتقال في التعليم المتعلق بالصناعات الإبداعية والثقافية من التركيز على النظري إلى التعمق في العملي، وتشجيع إقامات المعاهد والجمعيات التي تساعد على صقل المهارات والمواهب وتفجير الطاقات الكامنة، بالإضافة إلى استغلال التعليم في نشر الوعي المجتمعي بأهمية هذا القطاع.

نعم.. توجد لدينا «الطبقة المبدعة» التي أثبتت جدارتها، ونجحت على المستويين المحلي والعالمي في مجالات متعددة، وتوجد لدينا الحضارة التاريخية التي تغذي هذه الطبقة بموروث (مادي/معنوي) عظيم بالإمكان الاتكاء عليه وعصرنته وإشباع المستهلك المحلي به، وتصديره إلى الأسواق الخارجية في الوقت نفسه، وتوجد لدينا «النيّة» التي ذكرتها في مقدمة هذا المقال على صورة خطط واستراتيجيات وحراك وفعاليات، لكن بدون إجابات واضحة ودقيقة على التساؤلات الواقعية أعلاه، سيكون من الصعب علينا أن نتحرك خطوات إضافية إلى ما وراء هذه النيّة لبناء وإقامة صناعات إبداعية وثقافية متكاملة القواعد والأركان، ونصل من خلالها إلى الهدف الوطني المنشود.

علي الأنصاري شاعر وكاتب عماني