ثقافة

المبدع... ورؤية العالم

25 يوليو 2021
25 يوليو 2021

"إن تاريخ العالم هو دائما تاريخ الضعفاء الذين يقاتلون الأقوياء" غسان كنفاني

صادف الثامن من يوليو مرور الذكرى التاسعة والأربعين على وفاة الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (9 أبريل عكا- 8 يوليو - بيروت)، الذي وافته المنية عام 1972م. وقد دفعتني متابعة برنامج (خارج النص- قناة الجزيرة) الذي أُعيد بمناسبة اغتياله على يد الموساد، للعودة إلى مفهوم الرؤية الكلية وعلاقة المبدع بها في جميع أعماله الإبداعية والفنية. في ذلك البرنامج الذي ضم نخبة من المبدعين العرب رأى الأديب إلياس خوري "أن الوعي الفلسطيني تأسس على يد كلّ من غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وإدوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا"، ما يدفع في حقيقة الأمر إلى سؤال جوهري: إلى أيِّ حدٍّ لعبت مؤلفات كنفاني دورا في تحريك ردود فعل الجماهير مؤخرا تجاه (حي الشيخ جرّاح والجرائم الصهيونية المتكررة ضد المسجد الأقصى؟)، وبأيّ قدر أيضا، أسهمت معرفة القراء بأدب غسان كنفاني في تشكّل الوعي الثوري لدى الجماهير العربية سواء داخل أوطانها أو في بلاد المهجر والحمولة الثقافية التي تؤسسها القضية الفلسطينية في الذهنية العربية؟ هل تمثّل الوعيُ الثوريُ لهؤلاء أحد أبطال شخصياته الروائية أو القصصية أو المسرحية؟

وضمن اهتمامات غسان كنفاني بفلسطين كقضية مفصلية في حياته ومنطلقا من تأثره بحركة التحرر الوطني التي حتمت عليه بلورة الصراع الوجودي في أعماله الإبداعية ومقالاته الصحفية ودراساته، أنجز كنفاني ثلاث مسرحيات هي: الباب 1964م، والقبعة والنبي 1967م، ومسرحية إذاعية جاءت بعنوان جسر إلى الأبد، وصدرت طبعة المسرحيات الثلاثة عام 1993م في مجلد فاخر عن مؤسسة الأبحاث العربية. فلماذا لم ينجز غسان كنفاني للمسرح غير تلك المسرحيات؟ هل لهذا صلة مباشرة بالنوع الأدبي وقضاياه وإشكالياته؟ أم أن هناك موقفا ملتزما يرتبط ارتباطا بمصطلحات المقاومة والنضال والتحرر الوطني، وقدرة الرواية على حملها والدفع بشخصياتها إما إلى الذرى أو الهبوط معها إلى القاع؟! إنه سؤال مبرر إلى حدّ ما، يخصّ قضايا تكنيك بناء الشخصية المسرحية واختلافها عن شخصيات العمل السردي؟ أو أن لذلك صلة بالعقبات الكثيرة التي تقف إزاء تحضير نصٍّ مسرحي وتجهيزه للعرض، وهي عوائق فنية مركبة، بل ومعقدة في عالمنا العربي ويعرفها العاملون في المسرح؟

تُعدُّ القراءة التي كتبها الأديب جبرا إبراهيم جبرا كمقدّمة للمسرحيات قيّمة جدا، ومتصلة بمفهوم المبدع ورؤيته للعالم وما يؤرقه نحو أفكاره التي يؤمن بها، وأسلوب الكتابة التعبيرية التي هي بمثابة الوسيلة الأولى للتواصل مع العالم، وما يطرحه من تساؤلات قلقة تارة، ويقينية تارة أخرى. لقد وقف جبرا في قراءته للمسرحيات عند نقاط حيوية يمكن التطرق إلى بعضها:

- موقف المبدع من نفسه وشعوره بالمسؤولية تجاه تكوينه الثقافي. لقد تبدى ذلك كما يكتب جبرا، أن كان على غسان "أن يحقق تكامله النفسي، كفلسطيني أولا ثم كأديب معاصر وأخيرا كسياسي فاعل، عن طريق الكلمة بأشكالها جميعا".

وما كان لهذا التكامل أن يتحقق إلا عبر تصور المبدع لوجوده ضمن مجتمع له تاريخه وثقافته وهويته التي تميزه، وداخل حياة كبيرة وعالم أكبر، يتأثر به ويؤثر فيه. ويُعدّ هذا الموقف عاملا مهما يساعد المبدع أو يُعينه على تخيّر موضوع كتابته، واختيار الأساليب التعبيرية المناسبة لكل نوع.

- "أن أول ما يلفت النظر في هذه المسرحيات، أنها لا تذكر فلسطين، أو اسما لمكان فلسطيني، على عكس كل ما كتبه من قصص وروايات. [...] غير أن المنطوى الفلسطيني قائم بقوة من البداية حتى النهاية، على نحو رمزي أحيانا، وتجريدي أحيانا أخرى".

شدّتني هذه الملاحظة ودفعتني إلى التفكير في نقطة تتصل بطرف أول حول اللجوء إلى التجريد والرمز، ومن طرف ثان تتعلق بالكم القليل لمسرحيات كنفاني في مقابل أعماله الإبداعية في الرواية (8) روايات، و(5) مجاميع قصصية. وليس الهدف هنا، إبراز الكم على الكيف، فهذا معيار لا نستند إليه، فالمبدع حُر في اختيار الأسلوب التعبيري المناسب للنوع الأدبي الذي يرتاح إليه، ويبدع فيه، كما أنه ليس كل من أبدع وتفرّد في كتابة الرواية، عليه أن يحقق المكانة نفسها مثلا في كتابة القصة القصيرة، أو المسرحية، أو القصيدة، أو السيناريو السينمائي!

يمنح توظيف الرّمز في النص الإبداعي أبعادا تأويلية كثيرة، فللرّمز قدرة على استيعاب القضايا الوجودية الكبرى، وتمثّل الإسقاطات السياسية بأبعادها التاريخية، سواء التقطها المبدع في لحظة خمولها أو في أثناء حركتها وتطورها؛ وهذا يشير إلى أن مجتمعنا العربي لا يُقدم صورة واهنة في أثناء تفاعله مع الأحداث. ويطرح لجوء غسان إلى الرمز تأثر المبدع بما يعتمل في عصره وضرورة التفاعل معه. لقد أشار جبرا في المقدمة إلى تأثر كنفاني بما زلزل عالمنا العربي من قضايا مصيرية كبرى، وما كان عليه إلا أن يتفاعل معها بواسطة اللغة. يكتب جبرا: "... إنه يتلقى مناخ الستينيات الفكري والأدبي والأسلوبي ويُسخره في الحال لغايته".

قادتني هذه الجزئية إلى الأديب العالمي نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911م - 30 أغسطس 2006م)، الذي بدوره خاض معترك الكتابة المسرحية، فأنجز ثماني مسرحيات خلال عقد ونصف بين نهايات 1967م وبدايات 1979م، وفي الدراسة القيّمة التي كتبها الناقد حسن عطية بعنوان: نجيب محفوظ كاتبا مسرحيا وسينمائيا، والصادرة طبعتها الأولى عن الهيئة العربية للمسرح عام 2019م، يقسم الناقد مسرحيات محفوظ إلى مرحلتين، الأولى المرحلة التي اتسمت بفقدان الاتزان الفكري والروحي فقدم خلالها محفوظ المسرحيات (يُحيي ويُميت، التركة، النجاة، مشروع للمناقشة، المطارة، والمهمة)، في حين اقتصرت المرحلة الثانية على عالم ما بعد النصر والمحاسبة وقدم خلالها مسرحيتين هما: (الجبل والشيطان يعظ).

إن تقسيم أعمال محفوظ المسرحية إلى المرحلتين السابقتين استند إلى مقابلة أجراها الناقد رجاء النقاش مع نجيب محفوظ قال فيها: "... وأعجبتني الأعمال التي عبرت عنه، بخاصة كتابات يونسكو وسارتر وألبير كامو، كان سبب إعجابي بهذا التيار هو انطباق الشكل على المضمون [...] ثم جاءت هزيمة 5 يونيو 1967م، فشعرت أنني فقدت اتزاني [...] وجدت نفسي مدفوعا لتيار اللامعقول [...] وعندما بدأت في استعادة التوازن العقلي والروحي عدت مرة أخرى إلى الشكل الواقعي البسيط...".

لقد تأثرت النخب المثقفة في الوطن العربي في ستينيات القرن الماضي بالعديد من الاتجاهات الفكرية والفلسفية كالوجودية، والماركسية ومسرح اللامعقول، وعلى الرغم من اختلاف موقع كل أديب، إلا أن كل مبدع قد ارتبط برؤية ما إلى عصره وطبقته، وهذا ما يشير إليه مفهوم الرؤية إلى العالم الذي طوره الناقد لوسيان غولدمان (1913 رومانيا -1970 فرنسا) ضمن مفهوم واسع لاشتغالات البنيوية التكوينية في النقد الأدبي ؛ "الرؤية ليست واقعة فردية، بل واقعة اجتماعية تنتمي إلى مجموعة أو طبقة [...] إن العمل الأدبي، هو التعبير عن رؤية للعالم، عن نمط من الرؤية والإحساس بعالم ملموس من الكائنات والأشياء".

إن تلقينا للعمل الأدبي، سردا أو نثرا، يجعلنا على درجة من تأويله، بكل الظلال التي تُسهم فيها لغة العمل الأدبي وتُتيحها لنا. ومن المؤكد من خلال هذين النموذجين (غسان كنفاني ونجيب محفوظ) أن أعمالهما المسرحية تُبرهن بدرجة من الدرجات على توفر رؤية إلى العالم لديهما، سواء كانت رؤية تتسم بخصائص مسرح اللامعقول أو بخصائص الواقعية النقدية أو غيرها من الرؤى. عندئذ، سيكون القراء على قبول أو رفض تلك الرؤية، لكن مع الحذر ألا يجري فصلها عن السياق الزمني بكل حمولته التي ظهرت فيه.