No Image
ثقافة

الروائي شكري مبخوت لـ «عمان»: الروايات العُمانية تحمل عوالم تخييلية مميّزة مغمسة في خصائص البيئة المحلية وأوجاع الإنسان

05 فبراير 2023
05 فبراير 2023

قبل أن يحل الروائي الدكتور شكري مبخوت «اليوم» ضيفا على جامعة السلطان قابوس كمحاضر منتدب من أمانة جائزة الملك فيصل التي فاز فيها قبل أن يحصل على البوكر، استضافته صحيفة (عُمان) في هذا الحوار الممتع الذي أجاب فيه عن كل التساؤلات المطروحة دون أي تردد، ولولا ضيق المساحة لكان الحوار أكثر شمولية ويتطرق لمسائل ثقافية عديدة وتجربته الكتابية والأكاديمية الواسعة.

ما بين عام 2015، حيث كنت مشاركا وفائزا بجائزة بوكر وعام 2022 أصبحت رئيسا للجنة التحكيم في هذه الجائزة، كيف تقرأ المشهد، وكيف تقارن بين الوضعيتين؟

فعلا هي مصادفة طريفة فلأول مرة يترأس لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية أحد من سبق له الفوز بها. وما نراه من خارج اللجنة غير ما نكتشفه داخلها. فعمل اللجنة معقد ومرهق وإن كان في مجمله شيقا. نكتشف خلال مراحل التحكيم مسألة معايير الاختيار واختلاف الأذواق وضرورة الاتفاق بواسطة الحوار والنقاش والإقناع. والمهم أن الجائزة لم توجد فيها ضغوط لا من أمانتها العامة ولا من المؤسسة المشرفة عموما ولا من الناشرين ولا من الممولين. أما الإعلام فهو حر في ما يكتب ويقول وإن لم نر ضغوطا كذلك منه عدا بعض الحماسة المفرطة التي يحركها منطق وطني ضيق الأفق أو شللية لم تعد تجدي نفعا لأنها مكشوفة. فمن حسن الحظ أن الاختيار النهائي في الدورة التي ترأست فيها الجائزة كان على عمل مجمع عليه في مختلف مراحل التحكيم (القائمة الطويلة فالقصيرة فالتتويج). لكن بصراحة أن تكون مرشحا للجائزة أمر مريح مقارنة بمسؤولية اختيار الفائز النهائي فهي مسؤولية ثقيلة لأنها تتطلب اختيار الأفضل بين أعمال متميزة تأكيدا لسمعة الجائزة من ناحية وإرضاء للضمير من ناحية ثانية، واتقاء لما يمثل إضافة حقيقية للمتن الروائي العربي ثالثا. حين نكون مرشحين تتحكم فينا الرغبة في الفوز وتحركنا النرجسية وهذان أمران مشروعان. لكن من زاوية لجنة التحكيم يعني الوصول إلى القصيرة أو الفوز دعوة إلى القراءة والانتباه إلى ما وصلت إليه الرواية العربية من تطور في الأشكال والمضامين وهذا ليس بالقليل وقد استطاعت البوكر تحقيقه.

يسألونك دائما، (انك قادم من ميدان العمل الأكاديمي والنقد لتتبوأ المشهد الروائي)، لماذا هذا الاستغراب، هل العمل الإبداعي يقتصر على فئة معينة وبمواصفات ما مثلا..؟

هو نقاش بيزنطي وإن كان دالا أحيانا. فمن دلالته صورة مثالية رومانسية ربما عن عصامية الأدب وقيامه على الإبداع العفوي والموهبة والاستعداد الفطري واصطفاء الأديب - النبي (فكرة شيطان الشعر وعرائس الإبداع الملهمات) مقابل الثقافة والمعرفة اللتين تؤديان إلى التصنع. وهو تيار قديم قدم الأدب. لكن نظريا زاحم هذه الفكرة موقف أكثر واقعية جعل الأدب لدى القدماء صناعة لا تناقض الاستعداد والموهبة. وفي الحديث صار الأدب معرفة ينتجها وينهض عليها. ومن خلال الأمثلة الملموسة نجد في العالم كله وفي عالمنا العربي أكاديميين ونقادا ومفكرين كتبوا الرواية. فمن الفرنسيين مثلا ابتكر الناقد سارج دوبروفسكي انطلاقا من معرفته النقدية جنسا فرعيا هو التخييل الذاتي وكتب فيه روايته «خيوط»، ومن الإيطاليين نجد امبرتو إيكو الذي جمعت كتاباته إلى المتعة السردية المعرفةَ الدقيقة جدا والمعلومات الثمينة وخبراته اللغوية والتاريخية والسيميائية. ومن يطالع سير الكثير من الروائيين العرب والعالميين سيجد أشباها ونظائر لهذين الناقدين الروائيين (عبدالله العروي وأحمد المديني ومحمد برادة من المغرب والمرحومين حسين الواد ومحمد الباردي والحبيب السالمي وأميرة غيم من تونس وجوخة الحارثية من عمان... إلخ...) عموما بعد أن ثبت أن كل الكتاب ينطلقون من معرفة ما قد تكون صريحة على وجه الاختصاص أو ضمنية من خلال القراءات فإن ما يحتكم إليه هو مدى إتقان لعبة السرد وتلقي القراء للنصوص. ولا يوجد اليوم أي كاتب عصامي نبت في تربة الأدب كالفطر. الكتابة عموما والرواية خصوصا صناعة وثقافة ومعرفة توظف فيها خبرات كثيرة ومعها الخبرة اللغوية والنقدية.

روايتك الأولى «الطلياني» ما الذي جعلها تصبح ظاهرة بعد أن فازت بالبوكر، هل قدر الروايات الجميلة أن لا يتم اكتشافها إلا بعد أن تفوز بالجوائز..؟

هذا سؤال من الصعب أن أجيب عليه. أنبه بدءا إلى أن الرواية قرئت ووجدت حظا من الانتشار والتتويج بالجوائز قبل أن تحصل على البوكر. فبين تاريخ صدورها في يونيو 2014 وحصولها على جائزة البوكر في مايو 2015 وصلت إلى طبعتها الثالثة واستنسختها بعض المواقع الإلكترونية المختصة في سرقة الكتب منذ شهر مارس 2015 وعقدت في تونس عدة لقاءات لمناقشتها وتوقيعها. علاوة على ذلك حظيت الرواية بجائزتين محليتين هما جائزة معرض توس الدولي للكتاب لسنة 2015 وأهم جائزة أدبية في تونس «جائزة الكومار الذهبي». بهذا المعنى كان فضل البوكر على الطلياني أنها وسعت قاعدة قرائها من رواية محلية ربما (تونسية أقصد) إلى رواية عربية قابلة للترجمة إلى اللغات الأخرى. وهذا ليس بالأمر الهين القليل. وعلي هنا أن أشير إلى عامل ثانوي لكنه مهم. فقد أحاطت بالرواية هالة، الرواية المفاجئة، وتساءل المهتمون بالأدب: كيف يمكن لرواية أولى أن تفوز بأهم جائزة روائية عربية؟ طبعا التفسير الأبسط هو التفسير التآمري الذي يتهم اللجنة والجائزة من قبيل ضرورة التوزيع الجغرافي للفائزين وتونس لم تفز من قبل وكانت الطلياني مناسبة لذلك. ولمح البعض إلى علاقة شخصية موهومة بيني وبين رئيس اللجنة مريد البرغوثي (رحمه الله). هذا كله لا نأبه له وهو متوقع ممن لا حظ لهم في نقد النصوص. لكن يبقى تحول الطلياني إلى ظاهرة يحتاج فعلا إلى تفسير. وأظن أن ما كتبه بعض النقاد قد يكون منطلقا للتفسير المنشود. اكتفي هنا برأيين. أحدهما للمرحوم الناقد صلاح فضل. فقد وجد في الرواية تناقضات المجتمع التونسي في فترة محددة من تاريخه القريب حتى اعتبرها مادحا قريبة من كتابة نجيب محفوظ عن القاهرة والمجتمع المصري (وقريب منه ما ذهب إليه الناقد صبري حافظ في دراسة مطولة عن المكان، مدينة تونس، في الرواية وهو الذي عاش في تونس ويعرف المدينة جيدا). أما الرأي الثاني فهو للناقد والأكاديمي التونسي محمد آيت ميهوب الذي حلل شخصية عبد الناصر ورأى فيها جاذبية مثلت عمدة نجاح الرواية. فبدت له من الشخصيات القوية التي لا تفارق ذهن القارئ بعد الفراغ من الرواية ورأى أن جل شخصيات الروايات التونسية أقرب إلى شخصيات القصص القصيرة في حين أن الطلياني صنعت شخصية مركبة فاتنة.

بدأت بالطلياني لتكتب عن تحولات المجتمع التونسي على أكثر من صعيد واستكملت بـ «مرآة الخاسر» وعلمت أن لديك النية لاستكمال هذه السلسلة كنوع من التأريخ؛ تلك الفترات توضحت معالمها وكنت شاهدا عليها، ولكن الفترة التي بدأت مع ما يسمى الربيع العربي لا زالت غامضة في تأثيرها ومستقبلها ألا تعتبر الكتابة عنها مجازفة....؟

فعلا هي مجازفة بالنسبة إلي على الأقل. ليس من السهل أن نكون في قلب الحدث وأن نفهم ما يجري فعلا، فالكتابة الروائية كالكتابة التاريخية تحتاج إلى استكمال المشهد وبناء الأحداث حتى ندرك ما وراءها في عملية تأمل للأسباب، والدوافع والنتائج والتبعات. ولا أظن أن الحدث المزلزل الذي عاشته تونس قد اكتمل. وأي محاولة للكتابة عنه ستكون إما سردا باردا مشدودا إلى الكرونولوجيا (تتابع الأحداث الجزئية) وإما مخاطرة باستنتاجات وتأويلات قد تكذبها الأحداث المقبلة. أقصى ما أستطيعه شخصيا أن التقط مشاهد صغيرة أرويها في قصص قصيرة وهو ما قمت به في بعض أقاصيص مجموعتي القصصية الوحيدة «السيدة الرئيسة».

ما يسمى بالربيع العربي أدى إلى تهشيم عدد لا بأس به من بنية المجتمع العربي وتفكيكه على أكثر من صعيد وبدا متزعزعا، «مع اختلاف المشهد بين تونس وبقية الدول» أصبح نبعا فياضا بكل ما يمكن أن يكتب عنه الروائي دون أن تتغير البنى والمفاهيم السياسة المتجذرة في تلك الأوطان. والأكثر مرارة أنه بات لدينا عدة تيارات أدبية تكتب عن الحروب والثورات والمجتمع وماحل به من فجائع، كل من خندقه، أية مفارقة هذه وأي تدوين عادل لما لحق بالناس والمجتمع والأمة العربية، ومن سيدون التاريخ الروائي هنا...؟

التأريخ في الرواية ليس مقصدا أساسيا عند الكاتب، ولكن الأحداث والوقائع إذا تتابعت وكانت بينها في نظر الروائي صلة سببية أو غيرها انتظمت عنده في بنية صراع تمثل مهادا محتملا للكتابة الروائية. المشكلة أن الحدث الذي نسميه «ربيع عربي» لم يكتمل ما زال في صيرورة ومسارات محتملة كثيرة. فمن المجازفة كذلك الحديث عنه، لكن هذا لم يمنع من وجود روايات التقطت لحظات إنسانية مهمة ضمن هذا المسار فصنع أصحابها أعمالا محترمة.

آثرت في أحد حواراتك موضوع تلقي النص الأدبي وإشكاليته المتعلقة ما بين الفهم وعدم الفهم، هل الأمر يتعلق بالقارئ أو بالكاتب، وأيهما يجب أن يصل للآخر..؟

لا أذكر ماذا قلت بالضبط في هذا الحوار، لكن المسألة في ظني بسيطة وواضحة. فمبدئيا نحن نتحدث عن الرواية وليس عن مسائل نظرية لها مرجعياتها المعرفية الثابتة والرواية تقتضي التفاعل وتحاور الذوات القارئة مع ذات المؤلف. وهذه المسافة بين المتخاطبيْن (الروائي والقارئ) حيز لنشأة عدة ضروب من سوء التفاهم بينهما، وينبغي أخذها على أنها جزء من عملية التلقي والتخاطب الأدبي نفسها. مثلما لا يوجد سلطان على ضمير الروائي غير إخلاصه للفن الروائي ومقتضياته وقدرته على السرد المتقن فإن القارئ نفسه حر في فهمه واستعمالاته الممكنة للنص الروائي. لنأخذ مثلا القارئ المحترف الذي نسميه الناقد. حين ندقق في العلاقة بين الرواية التي يتناولها بالنقد والنص النقدي الذي كتبه سنجد مسافة تضيق أو تتسع بحسب معايير مختلفة. وقد يسيء الناقد الفهم وإن ظل متناسقا في نصه النقدي أو قد يقدم فهما للعمل الروائي منقوصا أو مشوها. كل هذا لا يعني أن الروائي صاحب النص وكاتبه يمتلك فهمه الصحيح، وبالقدر نفسه لا يعني أن نص الناقد يحاسب بمدى فهمه لمقاصد الروائي أو ضعف فهمه لها أو حتى إساءة فهمها. وسبب هذا التصور المخادع ناتج في تقديري عن وهمين: وهم أن الروائي يسيطر على معنى النص بسبب كونه هو من أنتجه وأن الناقد يتوقع منه أن يضع يده على حقيقة المعنى المودعة في الرواية. والواقع أن كلا الأمرين مجرد فهم مسبق غير مطابق للواقع.

المركزية الأدبية كانت لوقت قريب متواجدة في دول عربية بحد ذاتها، وهناك تباعد ربما بين كتاب المشرق العربي عن مغربه، وإن كانت تونس ربما استثناء نظرا للانفتاح الذي تتمتع به، اليوم تغيرت خارطة الأدب كيف ترصد هذا التغير والانفتاح..؟

من حسن الصدف أن سؤالك هذا تطرحه علي قبل أيام من محاضرتي يوم الاثنين السادس من الشهر الجاري ( اليوم) في جامعة السلطان قابوس بالتنسيق مع أمانة جائزة الملك فيصل وهذه المسألة في جزء كبير منها ستكون منطلقا للمحاضرة. والواقع أن العوامل عديدة منها التاريخي ومنها السياسي ومنها الثقافي والأدبي. فلا أحد يمكنه أن ينكر ريادة مصر مثلا سواء في صياغة مشاريع نهضة ثقافية أو في تأسيس الجامعة المصرية الحديثة منذ قرن ونيف أو في ظهور الجيل الذهبي بين العشرينات والستينات من القرن الماضي. وقد كانت غزارة الإنتاج الأدبي والفكري من بين مظاهر هذه الريادة المصرية التي تعلم عليها كثيرون في العالم العربي. لكن نفس هذه العوامل المؤسسية بدأت في الانتشار في غير مصر وبلاد الشام (وهما المركزان الأساسيان الأولان في الثقافة العربية) فكان من الطبيعي أن تظهر بالتدريج مشاريع وطنية أخرى ترتبط بنشأة الدول الوطنية. ومن نتائج ذلك بروز حواضر أخرى للأدب والثقافة العربية غير مصر والشام منها المغرب الكبير والخليج (بما في ذلك العراق). على هذا الأساس أرى التطور طبيعيا ومتوقعا ولا سبب يجعلنا ننظر إلى الثقافة العربية في كل البلدان العربية على أنها كتلة واحدة والحال أنها متعددة متنوعة رغم الروابط اللغوية والإرث الثقافي المشترك بينها. لذلك تروق لي استعارة النهر بروافده المختلفة لوصف الثقافة العربية وفي إثراء هذه الثقافة، وعليه فليتنافس المتنافسون دون «شوفينية» قطرية ولا انغلاق مقيت.

شغلتك مسألة الهوية التونسية كثيرا وتحدثت عنها، وحتى نوسع الدائرة لنتحدث عن الهوية العربية، كناقد وباحث وروائي كيف عالجت هذه المسألة وكيف تنظر إليها وماهو السبيل لتقويتها وتعزيزها وتأخذ شخصيتها في العالم..؟

نعم لي بعض التساؤلات التي أنوي صياغتها في كتاب عن هذه القضية. فقولنا تونس أو المغرب أو عُمان بلد عربي مسلم لا يمنع من التفكير في خصائصه ومميزاته بالبحث في سماته التي تجعل التونسي مختلفا مثلا عن جاره وأخيه الجزائري أو الليبي. وهذا ليس بدعة فقد ظهرت مثل هذه المحاولات عندما بحث بعض المفكرين عن الشخصية المصرية أو الشخصية العراقية مثلا. وفي تونس سبقني إلى ذلك كثيرون منذ أواسط سبعينات القرن الماضي وأبرزهم البشير بن سلامة صاحب كتاب «الشخصية التونسية». ولكن اهتمامي ينصب في الحقيقة على تساؤلات أقل طموحا تدور حول سؤال جوهري: ما الذي جعل تونس سباقة في أمور كثيرة إلى التحديث؟ فما يشغلني هو محاولة التأريخ للحداثة في تونس. لذلك اعتقد أن الهوية العربية إما أنها ستكون تأليفا أو خلاصة لمثل هذه الدراسات التي تنصب على تحديد الهويات القطرية المختلفة، وإما أنها شيء مختلف عنها قد يكون هو الرابط الثقافي الذي صنعته اللغة العربية وأشياء أخرى لا أعرف ما هي.

هناك إقبال متزايد على قراءة الرواية، وانحسار ملفت لمتابعة الشعر الذي يعتبر ديوان العرب، وحتى القصة القصيرة، رغم أننا نعيش زمن السرعة والتكنولوجيا، ماهو السر برأيك، وماهو دور المؤلف في تحريك الشغف لدى القارئ..؟

أولا هي ظاهرة عالمية ولا تخص المجال الثقافي العربي، ثانيا عمر الرواية في العالم عموما غير طويل وعمر الرواية العربية قصير نسبيا، وثالثا يبدو أن الرواية تتيح لقارئها أن يدرك المجتمع وتحولاته والنفسيات وأزماتها أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى. لا أمتلك إجابة شافية مقنعة لكنني لا أفصل انتشار الرواية عن ميل القراء إلى الرواية المصورة (وأقصد السينما والدراما) ربما هو شغف معرفة الناس والمجتمع بعد أن انحسرت الفضاءات الاجتماعية التقليدية خصوصا العائلة والحي والمنتديات المختلفة ودخلنا عصر الفرد المستقل وإن نسبيا.

أعرف أنك تتابع المشهد الروائي العربي بشكل كامل ودقيق، ماذا تقول عن الحالة الثقافية في عُمان، والمشهد الروائي بشكل خاص..؟

متابعتي للرواية العمانية محدودة، ومعرفتي بها رقيقة، ولا أزعم أن حديثي عنها سيكون مفيدا. وسبب ضعف هذه المعرفة راجع إلى ضعف توزيع الرواية العمانية نفسها شأنها في ذلك شأن الرواية التونسية لدى الإخوة الأدباء العمانيين. ومن حسن الحظ أن النشر خارج بلداننا صار ممكنا وبفضله تصل الرواية العُمانية لبعض القراء مثلي. هذا علاوة على مشاركة بعض الروايات العمانية في الجوائز العربية والعالمية. الغريب وأنا أتحدث إليك في الموضوع واستحضر العناوين التي قراتها وشدتني إليها أجد روائيا واحدا هو زهران القاسمي صاحب الرواية البديعة التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر في هذه الدورة وأرجو لها أن تبلغ المراحل الأخرى أقصد رواية «تغريبة القافر». واستحضرت ثلاث روائيات عمانيات هن بدرية الشحية في «الطواف حول الجمر» وهي قديمة نسبيا وجوخة الحارثية في «سيدات القمر» ثم بشرى خلفان التي قرات لها «الباغ» و«دلشاد». في هذه الروايات التي أعرفها جيدا وجدت عوالم تخييلية مميزة مغمسة في خصائص البيئة المحلية وفي أوجاع الإنسان العماني تشدك إليها لأنها روايات مختلفة فعلا عما يكتب في ثقافات أخرى عربية وغير عربية.

هل ما زلت ترى أن القراءة بخير في العالم العربي، وأنت من قال: «أذهلني حجم القراء العرب، وكثرة القراء، والقارئات في الخليج العربي وهن على قدر من المعرفة الأدبية ومناقشة الكاتب، واستنباط القضايا» كيف ستنعكس القراءة على تطور المجتمع وولادة أقلام جديدة..؟

أعتقد استنادا إلى تجربتي في إدارة معرض تونس الدولي للكتاب مدة ثلاث دورات وتجوالي في أهم المعارض العربية ولقاءاتي الأدبية في نوادي القراءة أن القراءة تتطور. طبعا لا املك إحصاءات ومؤشرات عن النشر والتوزيع واستهلاك الكتاب، ولكن المعاينة تدفعي إلى مثل هذا الكلام. من الثابت أن هناك مشاكل في دورة الكتاب وفي القراءة نفسها ولكنني أحب أن أرى النصف المملوء من الكأس أملا في تطويره. أما انعكاس ذلك فهو بين من الآن لمن يريد أن يرى وما نراه في المجتمع من تعدد في الرؤى والتصورات واختلافات فكرية وحساسيات متجددة تفكك التصورات التقليدية يعود في جزء منه إلى تطور القراءة المرتبطة حتما بتعميم التعليم خصوصا تعليم الفتيات رغم كل النقائص في المناهج بقدر ما يعود إلى الانفتاح الكبير بسلبياته وإيجابياته على العالم من خلال الرقميات. طبعا نحن نفتقر إلى دراسات اجتماعية متخصصة في هذه المسألة تثبت أو تبطل مثل هذه الحدوس والمعاينات. وقياسا عليه سترشح هذه الفورة في القراءة في كتابات الأقلام الجديدة والأقلام الراسخة في آن واحد. فليس من باب الصدفة أن يقبل القراء العرب على الأعمال المترجمة في الرواية والفلسفة مثلا بما يؤثر، إن قليلا وإن كثيرا، في ما ينتجه الأدباء العرب.

حول الجوائز، البعض يقول إنها متحيزة وغير منصفة، والبعض يراها عكس ذلك، كما أن البعض يرى أن الطريق إليها يبدأ من المحلية التي يعيشها الكاتب ويدونها في رواياته، و«الطلياني» فيها رصد للواقع التونسي ومرحلة تحول مهمة، كيف ترد على ما يطرح..؟

كل ما يقال يجد مبرراته في عالم الجوائز. لكننا نحتاج إلى فهم دور الجوائز بعيدا عن منطق الغنيمة. الأصل في الجوائز أنها تكريم للتميز واعتراف أدبي بالجهد الإبداعي. فهي نتيجة وليست منطلقا. ولكن مؤسسة الجائزة حين تفتح الباب للتناظر وتنتقي اللجان ما تعتقد أنه أكثر توفيقا من الناحيتين الجمالية والمضمونية يوجد ضرب من التنافس الضمني والصريح. من هذه الناحية تقوم الجوائز بدور نقدي لا يختلف عن دور النقد الأكاديمي أو الثقافي أو الإعلامي.

فالكتاب الأدبي منذور لأن يدرج ضمن شبكة من المؤسسات الاجتماعية (من دور النشر والمكتبات وخزائن الكتب إلى المدرسة والجامعة والصحافة... إلخ) ومن بين هذه المؤسسات الاجتماعية والثقافية وأكثرها بروزا لارتباطها بالشأن الثقافي في بعده التنافسي نجد الجوائز. لذلك أعتبر وجود الجوائز أمرا طبيعيا جدا إذا أخذنا بعين الاعتبار سوسيولوجية الكتاب والأدب عموما. ولئن غلب منطق المردود المالي للجوائز على قيمتها الرمزية والثقافية فإنه ليس مكونا أصليا فيها. فبعض الجوائز في العالم مردودها المالي ضعيف جدا يكاد يكون معدوما (مثال جائزة الغنكور التي لا تتجاوز اليورو الواحد) وبعضها هو للناشرين وليس للكتاب أو في أحسن الحالات مناصفة بينهما. فالغاية من الجوائز التشجيع على النشر وخلق ديناميكية في عالم الكتاب نشرا وقراءة أكثر منها مكافأة الكتاب. فالمؤلف يستفيد ماليا من ارتفاع عدد النسخ المطبوعة ومن ثمة ترتفع حقوق التأليف. لكن الوضع الاجتماعي البائس لأغلب المؤلفين والأدباء ومسائل إيفاء جل الناشرين بتعهداتهم المالية مع الكتاب وضعف القراءة أحيانا وسوء التوزيع وغيرها من العوامل تجعل الناس يركزون على الجانب المالي. من هذه الناحية الكمية والاقتصادية (اقتصاد الكتاب) فإن دور الجوائز في تطوير المشهد الأدبي ثابت فلا نشر حديثا في أي مشهد ثقافي متوازن بدون جوائز. وفي جميع الحالات لا توجد وصفة جاهزة للأعمال الناجحة، أهي تطلق من البيئة الاجتماعية المحلية أم ذات بعد كوني فلسفي إذ تبقى الجاذبية مقياسا حدسيا غير قابل دوما للتفسير أمرا مؤثرا تأثيرا قويا.

ما بين النجاح الأكاديمي الذي يشغله المبخوت ونجاحه الروائي كيف تستطيع التوفيق بين الاثنين ومواصلة الألق، وإلى أيهما تشعر أنك تنتمي أكثر، وأنت الذي وقع في فتنة السرد ..؟

فعليا انتمي إلى الكتابة في حد ذاتها باعتبارها اختيارا وممارسة يومية سواء في البحث الأكاديمي أو إبداء المواقف الثقافية في المقالات أو العمل الإبداعي السردي. كلها ضروب من القول أحتاج إليها للتعبير عن هواجس واعية أحيانا وشبه واعية أحيانا أخرى. لذلك أنا لا أبحث عن التوفيق بين هذه الألوان من الكتابة لأني لا أرى من موقعي ككاتب أنها متناقضة فالأرجح أنها تمثل وجوها مختلفة لشيء واحد لا أدري بالتحديد ما هو، لذلك سميتها هواجس بالمعنى الحرفي الأول أي كل ما يجول في النفس من خواطر وأحاديث وما يعتمل فيها من أصوات مبهمة غائمة أريد أنا نفسي فهمها وتبينها.

مع صدور أول رواياتك قلت أنك لست روائيا محترفا، ومع ذلك قــــــدمت رواية باحترافية عالية، هل كانت الهـــــواية هي الجاذبة، وهل تعتبر نفسك اليوم محترفا ..؟

لست محترفا في الرواية إلى الآن على عكس اشتغالي بالبحث الأكاديمي. والأسباب كثيرة أبرزها أنني لست متفرغا لكتابة الرواية ولا أتصور نفسي أتفرغ لهذا الجنس من القول يوما. وما اعتبرته أنت احترافية هو من مقتضيات الكتابة في الجنس الروائي وما تفرضه من مواصفات. لكني لست هاويا في الآن نفسه لأنني أعمل بتخطيط وبصفة مستمرة على مشروع واحد هو مساءلة تحولات تونس المعاصرة التي عايشتها وأوجاع البشر فيها مساءلة روائية.