066
066
ثقافة

أنساغ :أمين صالح: عن الدرس الأول، والسَّلمندر، وتخدير الحواجز، وأشياء أخرى (1 من 4)

22 يونيو 2021
22 يونيو 2021

«هذا يعني ان اسم (أمين صالح) مزيَّف فعلاً. وأن شهادة الميلاد (1949) ينتسب إليها أكثر من معتوه ودجَّال ومجرم حرب» (أمين صالح، حاشية على متن «هنا الوردة.. هنا نرقص»، 1973).

(1)

من أي حرف من الجروف، وفي أي جرف من الحروف، يمكن الحديث عنه حدثاً غير هيِّن، والحديث منه حادثاً وَهِنَاً يفتُّ الحادثات، والحديث إليه مُحْدَثَاً جَلَلاً مُحدِثاً جَدَثَاً؟. كيف أنجو من حِمى أخطاره وأنا في بنادق الجند وبيارق المعسكر، أو لدى أيائل وأرامل السِّجن؟. سأخاطر بالقول عنه، و«في المخاطرة جزء من النجاة» كما حدَّثنا النِّفَّري في غابر النبوءة، ومستقبل الحكمة والقَمْحِ، وسديد النُّصح. لا أخالني بحاجة ممسوسة لأن أهرش الأيَّام، والسَّنوات، والدُّهور التي في عُبابه مخرتُها، أو أجلو عنها الغبار، أو الزَّبَد، أو الصَّدأ، أو أحكَّ الأطياف، والأشباح، والأشخاص، والشخصيات كي يندلع البلُّور بهيئة قَصٍّ ينضح شِعراً، ينضج تفَّاحة أخذتها الهيبة وأصابتها الغُلمة والبُحران فحوَّلها الجلال إلى ملاك يشبه أرنباً بريَّاً تائهاً، وأن أستدعي بوضوح شفّاف وشديد هل، ومتى، وكيف، وكم (وربما لماذا أيضاً) وَصَلَ - بتدرُّجٍ يهذي كقوس قُزحٍ لا يفرض نفسه على أحد سوى الألوان والأفق - اسم أمين صالح إلى حياتي ووجداني مبكراً، وذلك باعتباره مصدراً جوهريَّاً من مصادر تكوينهما وأنساغ إلهامهما؛ بل والإسهام لاحقاً في إجراء مراجعات حادَّة، والإتيان بشكوك ضرورية، وإعادة صياغة قناعات وقرارات معرفيَّة وإبداعيَّة حاسمة ستظل من محرِّكات ومداميك الوجود، والتوق، والقلق، والولع لغاية الآن. كان ذلك في أواخر سبعينيَّات/ أوائل ثمانينيَّات القرن الماضي، حيث كان اسم أمين صالح واحداً من صُنوٍ أو ثنائيٍّ إبداعي مقترناً في القبض على جمر الرُّؤية والرُّؤيا بقاسم حدَّاد؛ فكان يكفي أن يأتي اسم أحدهما في كتابة، أو حديث، أو تذكار كي يحضر الآخر تلقائيَّاً مثل الوَبَر، أو كما إستبرق الدم، بصورة سندسيَّة أليفة، ومتآلفة، في العمل التَّأسيسي الهِرَقْلِيِّ الدؤوب الذي قاما به بلا كلل أو ملل في تشكيل هواجسنا، ونحت قرون استشعارنا، وحياتنا، وحسَّاسيَّتا الثقافية والفنيَّة، وذلك غُبَّ الحبو المتأتئ في تحرُّكاتنا («تدحرجاتنا» قد تكون كلمة صائبة أيضاً) الأولى على مدارج وتلعثمات الوعي، والتجربة، وتهجيّات الكتابة، والحداثة، والاختلاف، والنَّزق. وكان ذلك مرتبطاً بدوره على نحوٍ وثيقٍ ليس فحسب بالإصدارات المستقلَّة لكل منهما على حدة، وهي وفيرة (ولاحقاً كذلك بعمل أدبي مشترك لهما لا يُنسى هو «الجواشن»، 1985)، وأيضاً بإصدارات أقرانهما المرابطين المثابرين في نفس الخندق، بل كذلك في الجهد السيمفوني، والكد الجماعي الرَّصين، والمثابر، والمهم الذي اضطلعت به طيِّبة الذِّكر فصليَّة «كلمات» التي كانت تصدر بالحثيث من الأمل والحلم، والمتقشِّف من الإمكانات الماديَّة، والرَّحب من الاحتمالات الخلاقة عن أسرة الكتّاب والأدباء في البحرين؛ حيث انصهرت في تلك البوتقة الغنيَّة -- المُفْتَقَدَة بشدَّة كبيرة للأسف من مكتبتنا ومدوَّنتنا الثقافيَّة اليوم-- مساعي الإبداع والتَّنوير الثقافي التي قام بها بإبهار بالغ رهطٌ طليعيٌّ من البحرين (عبدالقادر عقيل، د. إبراهيم غلوم، علي الشَّرقاوي، فوزية السِّندي، يعقوب المحرّقي، نعيم عاشور، خلف أحمد خلف، وسواهم)، وغير البحرين من الخليج السَّادر إلى المحيط الخائر (أدونيس، محمد بنّيس، عبدالكبير الخطيبي، فوّاز طرابلسي، كمال أبو ديب، عبدالعزيز المقالح، وغيرهم) إن كتابةً أو ترجمةً وسوى ذلك. لقد كانت «كلمات» (لمن يتذكَّر تلك المرحلة، وأدبيَّاتها، ومعطياتها الرَّقابيَّة في بلدان المنطقة كلاً بظروفها الخاصة والمُرَكَّبة) تجربة ثريَّة، فائقة الألق، وبالغة الأهميَّة. وإني أكاد لا أتذكر صدور أي عدد من «كلمات» لم تكن فيه لأمين صالح مشاركة حيويَّة سواء أكانت نصاً إبداعيَّاً فاتناً كتبه، أو ترجمة رشيقة اختارها بعمق تفكير وأجراها بحسن تدبير. ومن نافلة القول إن ذلك النشاط النشري النَّحليُّ كان يحدث بإلاضافة إلى الاضطلاع والتوازي مع عضويته في هيئة إدارة التحرير؛ ما يعني انخراطه المباشر في المسائل والمسؤوليَّات الإداريَّة والإجرائيَّة وما يترتب على ذلك من ضرورة الحكمة والموازنة في التعامل مع المساحة الوقتيَّة والطَّاقة العصبيَّة (وهذا طبعاً إضافة إلى أعباء الوظيفة التي يأتي منها الخبز). زِد إلى هذا أن ذلك الحراك الثقافي المتوهِّج (في الأدب وغير ذلك من ضروب الكتابة، في المسرح، في التَّرجمة، في التَّشكيل، في السينما، في الغناء والموسيقى، إلخ) كان مرتبطاً بدوره على نحوٍ عضويٍّ ونقديٍّ لا تنفصم عراه بمدٍّ نضاليٍّ مشرق عرفته البحرين بصورة متفرِّدة على مدى عقود طويلة من الزَّمن عبر أحداث وبُرهات تاريخيَّة معروفة؛ فكانت بذلك منارة حقيقيَّة للباحثين عن الأشكال الإبداعيَّة الجديدة على أصعدة البوح والتَّعبير، وكذلك للسَّاعين لإيجاد وقائع وبدائل متقدمة في أنسقة الفعل السِّياسي الاجتماعي الحديث. لهذا لم يكن غريباً أن تجد في الحالة البحرينيَّة الاستثنائيَّة (على نحوٍ بارز أكثر من بقية بلدان المنطقة) أن بعض رموز المحاولة الإبداعيَّة والثقافيَّة المغايِرة هناك كانت في الوقت نفسه هي رموز المشروع الاجتماعي البديل (قد يكون قاسم حدَّاد هو المثال الأبرز وغير الوحيد على ذلك). في هذا الإطار، وفيما يخصُّني ولا شك انه أيضاً يخصُّ غيري من جيلي، شكَّلت البحرين حالة إشعاعيَّة، ورفاقيَّة، وأخويَّة (ليس بمعنى جورج أوروِلْ و-1984- لا سمح الله) متَّصلة بالجوهر الأخلاقي والإنساني في الصَّوت والصَّدى، وفي التَّفاني والتَّكاتف والتَّعاضد، في الوجه وفي المرآة، في المودة العفويَّة والخاصَّة، في تشاكل الخلفيَّات وتمرأي الهموم والانشغالات، في العطاء السَّخي والإغداق العاطفي والموضوعي غير المشروط خاصَّةً - للأمانة - بالنسبة لنا نحن العُمانيِّين ضمن أسباب واعتبارات لا يجهلها كل من هو مطَّلع على التاريخ السياسي والثقافي المعاصر للمنطقة (وإضافة إلى الأسماء التي ذكرتها آنفاً على الصَّعيد الإبداعي فإنني، على الصعيدين الثقافي والسياسي، لا أواجه أدنى صعوبة في استحضار أسماء مثل عبدالرحمن النعيمي سعيد سيف، ليلى فخرو ، هدى سالم/ ماما هدى، عبدالنَّبي العكري، حسين موسى، أحمد حميدان، أحمد الخيَّاط ناصر حسين، أحمد عبيدلي، يوسف طاهر، بثينة فخرو ، نادية، عبيدلي العبيدلي، عيسى عبدالله، خالد البسَّام، عبدالعزيز الرَّاشد، عبدالله مطيويع، سالم سرور، عبدالعزيز الشّملان، عبدالمنعم الشِّيراوي، فهد، عبدالله السَّعد، صديق الماجد، وغيرهم)، في الإيثاريَّة الجمَّة، وفي العمل العلني والسِّري على ضرورة ألا يُتْرَك أي أحد من دون رغيف، أو حلم، أو كلمات، أو نجمة.