الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي
ترجمة

أوروبا والتقنية والجغرافيا السياسية

11 أغسطس 2021
11 أغسطس 2021

دشَّن الإتحاد الأوروبي لتوِّه أولَ خططَ العالم لتنظيم الذكاء الإصطناعي. وهذا مسعى حصل على قدر كبير من الإهتمام داخل بلدان الإتحاد وخارجها. كما هنالك أيضا قانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية والعَقد الرقمي واستراتيجية الأمن السيبراني وغير ذلك من التشريعات.

من الواضح أن الإتحاد الأوروبي يؤكد بذلك على دوره الذي أعلنه بنفسه كقوة تنظيمية عظمى. وهو الدور الذي تأسس أولا بتنظيم خصوصية البيانات في اللائحة العامة لحماية البيانات.

التنظيم القانوني للتقنية مهم. وربما أنه أكثر أهمية مما يدرك العديد من الأوروبيين. لكن الإتحاد الأوروبي، رغم كل عمله الريادي في تنظيمها، لايبدو منتبها تماما إلى أي حد صارت التقنية قضية جيوسياسية. وما هو أكثر لفتا للإنتباه أن الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي بالكاد بدأت التفكير في التقنية، رغم وجود بعض التحرك بشأنها في بروكسل.

جيوسياسيَّا، التقنية ليست حيادية

على مدار التاريخ، لم تقتصر التقنية على تغيير الإقتصادات والمجتمعات فقط ولكنها ظلت وسيلة رئيسية لإعادة توزيع النفوذ بين الدول وقوة أساسية لتشكيل وإعادة تشكيل العلاقات الدولية.

فالتقنيات يمكنها إيجاد ميزات اقتصادية تعزز النفوذ الإقتصادي للبلد المعني. وفي مقدورها تمكين قدراته العسكرية ومنحه ميزة جديدة بل وحتى غلبة (هيمنة). والمنتجات التقنية يشكِّلها من يقوم بتصنيعها ويجسِّد فيها قيمه ومعاييره.

تركِّز بروكسل (عاصمة الإتحاد الأوروبي) ومعظم عواصم الدول الأعضاء أساسا على النتائج الإقتصادية والإجتماعية للتقنية وأثرها على العمل. وهي، بتجاهلها للجغرافيا السياسية للتقنية، كأنما تعتقد أنها يمكنها التخلص منها تماما.

لنأخذ الذكاء الإصطناعي. نشرت كل الدول الأعضاء ال21 في الإتحاد الأوروبي الآن وثائق سياساتها الخاصة بالذكاء الإصطناعي والتي تحدد فيها المجالات التي يتركز فيها اهتمامها وتُعِدًّ توصياتٍ حول السياسة التي يلزم اتباعها. وبإستثناءات قليلة، كفرنسا مثلا، لا تتطرق معظم بلدان الإتحاد إلى تحديات الطريقة التي قد يؤثر بها تطوير واستخدام الذكاء الإصطناعي على توازن القوي الدولي. لقد اقتصر اهتمامها بشكل تام على التحديات الإقتصادية والداخلية.

نحن بحاجة إلى تغيير عقليتنا عندما يتعلق الأمر بالتقنية. فالبلدان الأوروبية وشركاؤها يخاطرون بالتحول إلى ملاعب للتنافس التقني بين القوى العظمي والتي تحاول إجبارها على الإنحياز إلى كتلة ما في الصراع الدولي.

يمكن أن تصبح البلدان معتمدة إقتصاديا على الآخرين في الحصول على تقنيات مفتاحية مما يجعلها غير قادرة على التأثير على المعايير على نحو يتسق مع قيمها بل وحتى خاضعة للتدخل الأجنبي المباشر.

يجب أن يعتمد الإتحاد الأوروبي مقاربة مبدئية ترتكز على شراكات ومصالح متبادلة ورضى وتضامن.

لم يُولي الإتحاد اهتماما يذكر بالطريقة التي تؤثر فيها أعماله الداخلية أو عدمها على نفوذه الجيوسياسي بالنظر إلى أن هذا المقياس نادرا ما يُطرح في أية حوارات أوروبية.

يعني الذكاء الإصطناعي للآخرين النفوذ. فلجنة الأمن الوطنى الأمريكية للذكاء الإصطناعي تعرِّف دورها بأنه "تحديد الإجراءات اللازمة لضمان فوز الولايات المتحدة بالتنافس في مجال الذكاء الإصطناعي وإرساء الأساس لكسب التنافس التكنولوجي العام. "وأُشتُهِر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعلانه بأن من يقود في الذكاء الإصطناعي سيحكم العالم.

لكن الإتحاد الأوروبي ومعظم الأوروبيين لا يفكرون على هذا النحو. ويعود هذا في جزء منه إلى قضايا الكفاءة. لكنه يعود أكثر من ذلك إلى الطريقة التي يرى بها الإتحاد نفسه. إذ على الرغم من الحديث المنمَّق عن "إتحاد جيوسياسي" وإصرار الممثل السامي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية بأن الإتحاد الأوروبي يلزمه "تعلُّم استخدام لغة القوة "إلا أن بروكسل تظل إلى حد كبير غير مرتاحة مع سياسة القوة (استخدام القوة أو التهديد بها للسيطرة على وضع ما- المترجم).

الإتحاد الأوروبي في قِيَمِه وممارساته كيانٌ يحركه السوق ويقوده التكنوقراط. وهو منذ البداية ترك مهام السياسة العليا (الأمن والدفاع) في أيدي الدول الأعضاء.

هذا يعني أن المفوضية الأوروبية تنظر إلى العالم ليس من منظور القوة والإكراه أو الكسب النسبي ولكن كلعبة تتعلق بتنظيم السوق. والدول الأعضاء في معظمها لا تختلف عن ذلك. ففي التقنية، قليل منها تحمَّل المسئولية الجيوسياسية.

من الممكن إعتبار ذلك أحد الإنجازات الحضارية العديدة للإتحاد الأوروبي. لكن تظل الحقيقة هي أن أوروبا قد لا تكون مهتمة بالجغرافية السياسية. لكن الجغرافيا السياسية مهتمة بأوروبا.

نوعان من مكامن الضعف

بالنسبة للإتحاد وشركائه هنالك نوعان من نقاط الضعف التي أوجدتها المعارك حول التقنية وهما الإعتماد على الآخرين وقابلية للتدخل الأجنبي .

الإعتماد على الآخرين ينشأ عن قيادة أو إحتكار دول معينة لبعض التقنيات. ومثل هذه الهيمنة يمكن أن تجعل دولة بعينها قادرة على منح الآخرين تقنياتها أو حرمانهم منها والضغط عليهم للسير في ركابها أو توظيف اعتمادهم عليها لإجبارهم على تعديل أو تغيير وجهة سياساتهم الخارجية.

على أعضاء الإتحاد الحذر من الإعتماد التقني على جهات خارج الإتحاد، خصوصا الدول غير الديموقراطية. بخلاف ذلك، ستصير مستعمرات رقمية لآخرين. المثال الكبير لذلك في الماضي القريب الجدل الذي دار حول تقنية الجيل الخامس ومقدميها الصينيين.

إذا خسرت أوروبا موقعها في مجال التقنيات قد يدفع ذلك أيضا الشركاء الأوروبيين إلى الإعتماد على آخرين سيشغلون الفجوة التي يتركها الأوروبيون.

يمكن أن توجد التقنية طرائق مباشرة للدول للتدخل في شئون الآخرين. وهذه هي الحال مع التضليل الإعلامي أو استخدام تقنية جديدة في تطبيقات عسكرية.

سيكون الإتحاد الأوروبي بحاجة إلى حماية نفسه من مثل هذا التدخل. لكن عليه أيضا أن يضع في باله احتمال أن يكون قادرا هو نفسه على استخدام هذه الأدوات.

ما العمل؟

على خلاف القوى العظمي الأخرى التي كثيرا ما ترتكز عطاياها التِّقنيَّة على الإكراه واستغلال الضعف، على الإتحاد الأوروبي اعتماد مقاربة مبدئية ترتكز على الشراكات والمصالح المشتركة والرضى والتضامن.

إضافة إلى ذلك، على الإتحاد الأوروبي مواصلة مسح السوق الداخلية لتحديد مكامن الضعف في القطاعات التقنية الحاسمة في أهميتها والتعرف على بائعي التكنولوجيا غير مأموني الجانب وضمان التعامل بالمثل في الحصول على هذه التقنيات في السوق بالنسبة للبلدان التي تقيِّد أو تقلص التجارة الرقمية.

الشىء الأكثر أهمية، أن بروكسل بحاجة إلى إشراك العواصم الوطنية في الإتحاد الأوروبي. فإذا خطى الإتحاد إلى الأمام بشأن قضايا التقنية بدون مساندة من الدول الأعضاء سيخاطر بفقدان الصدقية والقدرة على التأثير على الآخرين. أسوأ من ذلك، يمكن أن يترك مساحات فارغة في أوروبا لكي تملأها قوى خارجية.

لكن إذا تعاون الإتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء على نحو وثيق حول قضايا التقنية، ستتعزز قوة الكتلة الأوروبية وستتولى القيادة بإظهار أن قواعدها وإجراءاتها التنظيمية، مثل تلك التي تتعلق بالخصوصية أو الذكاء الإصطناعي الموثوق، تنجح داخل بلدانها.

من الأهمية الفائقة لأوروبا أن تدرك وتدرس الآثارَ الدولية من الدرجة الثانية والثالثة (العواقب اللاحقة وغير المباشرة) لأية خطوات تتخذها في الفضاء التقني. وهي بحاجة إلى الإقرار بأن هذه الخطوات تؤثر على نفوذها الجيوسياسي. إنها تؤثر على القوة الناعمة للإتحاد الأوروبي كقدوة يتأسى بها الآخرون ووضعِه قياسا إلى خطط اللاعبين الكبار الآخرين ومجالِه الجيوسياسي المتاح للمناورة.

الكاتبة زميل أول سياسات بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية