No Image
الاقتصادية

صندوق النقد يدعو لإعادة النظر في السياسة النقدية وسط عالم متغير

30 مارس 2023
30 مارس 2023

تتطلب السياسة النقدية منهجا معدلا يتسم بالحصانة في مواجهة التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة في السيناريو الاقتصادي الكلي -

يتعين على البنك المركزي الحفاظ على انحياز الرأي العام له لأنه المصدر الأساسي لقوته واستقلاليته -

«عمان»بعد فترة مطولة من الانخفاض في أسعار الفائدة والتضخم، بدأ الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة تتسم بارتفاع التضخم وارتفاع مستويات كل من الدين العام والخاص. فمنذ خمسين عاما، ارتأت البنوك المركزية أن الحاجة ملحة لإدراج الاستقرار المالي وبواعث القلق بشأن الانكماش ضمن نماذجها الاقتصادية التقليدية، واستحدثت أدوات غير تقليدية للتعامل مع المسألتين. وقال صندوق النقد الدولي عبر تدوينة جديدة له إن مواجهة التضخم الذي عاود الظهور تتطلب تحولا آخر في موضع تركيز السياسة النقدية، فالإطار الفكري السائد لدى البنوك المركزية منذ الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2008 لا يحمل تركيزا على ما يلوح في الأفق من قضايا هي الأشد إلحاحا، ولا يخفف من تداعياتها الوخيمة المحتملة في هذا المناخ الجديد.

وأشار إلى أنه على الرغم من أن تحقيق الاستقرار المالي يظل من بواعث القلق، فإن ثمة اختلافات مهمة بين البيئة الحالية وتلك التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، فالدين العام مرتفع حاليا، ومن ثم فإن أي زيادة في سعر الفائدة لدرء تهديدات التضخم تجعل خدمة الدين أكثر تكلفة - مع ما يرافق ذلك من انعكاسات مالية فورية وكبيرة على الحكومات. ومنذ بداية أزمة كوفيد-19 في أوائل عام 2020، بدا واضحا أيضا أن سياسة المالية العامة يمكن أن تصبح أحد العوامل الدافعة لزيادة التضخم. وبدلا من الضغوط الانكماشية، تواجه معظم البلدان تضخما مفرطا. ويعني هذا أن هناك عملية مفاضلة واضحة حاليا بين اتباع سياسة نقدية تحاول الحد من الطلب الإجمالي عن طريق زيادة أسعار الفائدة، وسياسة أخرى تهدف إلى ضمان الاستقرار المالي. وقد تغيرت طبيعة الصدمات ووتيرة حدوثها. فتاريخيا، كانت الصدمات تحدث في المقام الأول بسبب زيادة الطلب أو انخفاضه - مع استثناء بارز هو صدمات العرض إبَّان ما عُرف باسم الركود التضخمي في سبعينيات القرن الماضي. أما اليوم، فهناك صدمات عديدة: الطلب مقابل العرض، والمخاطر الخاصة مقابل النظامية، والصدمات العابرة مقابل الدائمة. ومن الصعب تحديد الطبيعة الحقيقية لهذه الصدمات في الوقت المناسب حتى يتسنى التصدي لها. ومن ثم، يتعين على مسؤولي البنوك المركزية أن يتعاملوا معها بقدر أكبر من التواضع.

وقال ماركوس برونرماير، أستاذ كرسي إدوارد سانفورد للاقتصاد في جامعة برينستون عبر التدوينة إن السياسة النقدية تتطلب منهجا معدلا يتسم بالحصانة في مواجهة التغيرات المفاجئة وغير المتوقعة في السيناريو الاقتصادي الكلي. وقد يكون للسياسات الفعالة في بيئة اقتصادية كلية معينة تداعيات غير مقصودة عندما تتغير الظروف على نحو مفاجئ.

التفاعل النقدي-المالي

وأعقب برونرماير: تبدو البنوك المركزية في عملها وكأنها المسؤولة عن إدارة الاقتصادات الحديثة، فتتولى تحديد أسعار الفائدة بغية الوصول إلى استقرار التضخم، وإلى تحقيق التوظيف الكامل في أغلب الأحيان (في الاقتصادات المتقدمة). وإحدى الركائز الأساسية في هذا المنهج، الذي يمكن تسميته «هيمنة السياسة النقدية»، هي استقلالية البنوك المركزية. فأي بنك مركزي يتمتع بالاستقلالية القانونية إذا كان القانون تخوله السلطة المطلقة في تحديد أسعار الفائدة دونما تدخل من الحكومة. إلا أن الاستقلالية الفعلية لا تقل أهمية أيضا؛ فعند تحديد أسعار الفائدة، ليس على البنوك المركزية أن تكترث بما إذا كان رفع هذه الأسعار سيزيد من مديونية الحكومة أو مخاطر التعثر في السداد. ذلك أنها حين ترفع أسعار الفائدة ويصبح على الحكومات دفع المزيد لسداد ديونها، يكون المسار المأمول هو أن تخفض السلطات النفقات، مما يهدئ فورة النشاط الاقتصادي ويحد من الضغوط التضخمية. والاستقلالية هي الركيزة التي تتوقف عليها قدرة البنوك المركزية على تحديد السياسة المالية والسيطرة على الاقتصاد في الأوقات العصيبة.

وفي أعقاب الأزمة العالمية، كان السائد هو أسعار الفائدة المنخفضة ومستويات الدين العام الأقل تطرفا، مما أتاح للبنوك المركزية تجاهل التفاعلات التي لم تكن مؤثرة نسبيا آنذاك بين السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. وكانت الفترة التالية لأزمة 2008 هي فترة من هيمنة السياسة النقدية أي أن البنوك المركزية كان بإمكانها تحديد أسعار الفائدة بحرية والسعي لتحقيق أهدافها على نحو مستقل عن سياسة المالية العامة. ورأت البنوك المركزية أن المشكلة الرئيسية لا تكمن في الأسعار المتزايدة، وإنما في احتمال أن يسفر ضعف الطلب عن حدوث انكماش كبير. ونتيجة لذلك، انصب تركيزها في الأساس على استحداث أدوات غير تقليدية للسياسة النقدية تمكِّنها من تقديم دفعة تحفيز إضافية. وشعرت البنوك المركزية بأن لديها الجرأة أيضا على اتباع سياسات من شأنها الجمع بين تلبية الحاجة إلى مزيد من التحفيز وتحقيق الأهداف الاجتماعية، مثل الإسراع بالتحول الأخضر أو تعزيز الإدماج الاقتصادي.

وأشار إلى أنه أثناء أزمة كوفيد-19، تغيرت الظروف بدرجة هائلة. فقد شهد الإنفاق الحكومي ارتفاعا حادا في معظم الاقتصادات المتقدمة. ففي الولايات المتحدة، قدمت الحكومة الفيدرالية دعما هائلا شديد التركيز في شكل «شيكات تحفيز» أُرسلت إلى الأسر المستفيدة مباشرة. أما البلدان الأوروبية، فقد بدأت بتطبيق برامج في حدود أضيق إلى حد ما (ركزت في معظمها على الحيلولة دون تسريح العمالة وعلى برامج الإنفاق الرامية إلى المساعدة في عمليات التحول الأخضر والانتقال الرقمي). ويبدو أن توسع المالية العامة كان دافعا أساسيا للتضخم في الولايات المتحدة، بل إنه ساهم أيضا في التضخم الذي تمر به أوروبا. ولكن، في الوقت الذي كان الإنفاق فيه يتزايد، كانت البلدان تعاني من صدمات في العرض بلغت حجما غير مسبوق، وهو ما يُعزى في معظمه إلى المشكلات المتصلة بجائحة كوفيد-19 - مثل انقطاعات سلاسل الإمداد. وأدت هذه التطورات إلى زيادة الضغوط التضخمية.

وقد دللت الجائحة على أن السياسة النقدية في حد ذاتها لا تؤدي دوما إلى السيطرة على التضخم. فسياسة المالية العامة تضطلع بدور أيضا. والأهم من ذلك أن ما صاحبها من تراكم الدين العام زاد من احتمالية هيمنة سياسة المالية العامة التي لا يستجيب في ظلها العجز العام لإجراءات السياسة النقدية. وفي حين أن انخفاض مستويات الدين والحاجة إلى دفعة تحفيزية أتاح للسلطات النقدية والمالية التحرك معا في أعقاب الأزمة المالية العالمية، فإن احتمال هيمنة سياسة المالية العامة اليوم يهدد بإحداث صدام بينهما. ذلك أن البنوك المركزية تفضل رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، لكن الحكومات تكره زيادة الإنفاق على الفوائد. وهي تفضل أن تتعاون معها البنوك المركزية عن طريق تسييل ديونها أي بشراء السندات الحكومية التي لا يرغب مستثمرو القطاع الخاص في شرائها.

وليس بمقدور البنوك المركزية الاحتفاظ باستقلاليتها إلا إذا التزمت بعدم النزول على أي رغبة من جانب الحكومة في تسييل ديونها المفرطة، وبذلك تضطر السلطات إلى تقليص الإنفاق أو زيادة الضرائب، أو كليهما - أو ما يعرف باسم الضبط المالي.

وقال أستاذ كرسي إدوارد سانفورد للاقتصاد في جامعة برينستون إن أحد الأسئلة المهمة بالنسبة للسياسة هو ما الذي يحدد الفائز في أي منافسة على الهيمنة بين سياسة المالية العامة والسياسة النقدية. ولا يكفي لضمان هيمنة السياسة النقدية مجرد وجود ضمانات قانونية لاستقلالية البنوك المركزية. فالهيئات التشريعية يمكن أن تهدد بتغيير القوانين، كما يمكن تجاهل المعاهدات الدولية، مما قد يحدو بالبنوك المركزية إلى الإحجام عن سياستها المفضلة. ولتعزيز هيمنة السياسة النقدية، يتعين على البنوك المركزية أن تحافظ على مستوى جيد من الرسملة؛ لأنها إذا طلبت عمليات إعادة رسملة متكررة من الحكومة، فسوف تبدو ضعيفة، وتخاطر بخسارة التأييد العام. والبنوك المركزية ذات الميزانيات العمومية الكبيرة التي تحتوي على قدر كبير من الأصول ذات المخاطر وتدفع فوائد على الاحتياطيات للبنوك الخاصة قد تتكبد خسائر كبيرة في حالة رفع أسعار الفائدة. ويمكن أن تتسبب هذه الخسائر في زيادة الضغوط من السلطات المالية لكي تمتنع عن رفع أسعار الفائدة. والأهم من ذلك كله أنه يتعين على البنك المركزي الحفاظ على انحياز الرأي العام له، لأن المواطنين هم المصدر الأساسي لقوته واستقلاليته. ويعني هذا أن عليه الإفصاح بكفاءة عن الأساس المنطقي لإجراءاته بغية الحفاظ على التأييد العام، ولا سيما في مواجهة التضخم الناتج عن سياسة المالية العامة. فحفاظ البنك المركزي على هيمنة سياسته النقدية يرتهن، في نهاية المطاف، بقدرته على أن يعِد على نحو موثوق بأنه لن يقوم بعمليات إنقاذ للحكومة عن طريق تسييل الدين العام في حالة تعثرها في السداد.

تهديد الهيمنة المالية

وتواجه البنوك المركزية وفقًا للصندوق تحديات جديدة في التفاعل بين الاستقرار النقدي والمالي. وهي تعمل حاليا في بيئة تتسم بارتفاع حجم الدين الخاص، وانخفاض علاوات المخاطر على الأصول المالية، وتشوه إشارات الأسعار، واعتماد القطاع الخاص الكبير على السيولة التي يوفرها البنك المركزي في الأزمات. ويقول إن الفرق الرئيسي بين فترة ما بعد أزمة 2008 والوضع الحالي هو الارتفاع المفرط في معدلات التضخم. فمنذ عِقد ونصف العِقد، كان هناك تزامن بين الهدف المزدوج للبنوك المركزية والمتمثل في تحفيز النشاط الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي باستخدام سياسات غير تقليدية. واليوم، توجد مفاضلات واضحة بين إدارة التضخم وتحقيق الاستقرار المالي، لأن الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة لمواجهة التضخم يهدد بزعزعة استقرار الأسواق المالية.

ففي أعقاب الأزمة العالمية، واجهت البنوك المركزية مشكلة مزدوجة تمثلت في ضعف الطلب وعدم الاستقرار المالي وتعهدت بعمل «كل ما يتطلبه الأمر» لمعالجة كليهما، وفور استنفاد الدفعة التحفيزية التقليدية من خلال أسعار الفائدة، تحولت البنوك المركزية إلى استخدام برامج التيسير الكمي غير التقليدية، التي اشترت بموجبها كما كبيرا من الأصول ذات المخاطر من القطاع الخاص، على أمل أن تعطي دفعة لأنشطة الإقراض والقطاع العيني من خلال ما تحققه هذه البرامج من تراجع في فروق أسعار الائتمان. وبالإضافة إلى ذلك، مكَّنت هذه البرامج البنوك المركزية من الاضطلاع بدور مهم جديد بوصفها صانع سوق الملاذ الأخير، حيث تشتري الأوراق المالية عندما تحجم كل الأطراف الأخرى عن شرائها. وقد أدت عمليات الشراء الكبيرة لأصول القطاع الخاص إلى تضخم الميزانيات العمومية لهذه البنوك، ولم يتوقف هذا التوسع إلا عند انتهاء الأزمة لأنها خشيت أن يتسبب التعجيل بذلك في إلحاق الضرر بالاقتصاد. وأدت الرغبة في الإبقاء على ميزانيات عمومية كبيرة إلى تراكم دين القطاع الخاص، وتقلص فروق أسعار الائتمان، وتشوه إشارات الأسعار، وارتفاع أسعار المساكن بسبب زيادة الإقراض العقاري. وأصبح القطاع الخاص يعتمد على السيولة التي توفرها البنوك المركزية، واعتاد العمل في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة. بل إن الأسواق المالية باتت تتوقع أن تتدخل البنوك المركزية دائما عندما تسجل أسعار الأصول انخفاضا كبيرا. ولأن القطاع الخاص أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على البنك المركزي، فقد يكون التأثير الانكماشي لإجراءات استعادة الأوضاع العادية للميزانيات العمومية في البنوك المركزية أكثر وضوحا بكثير من تأثير دفعة التحفيز الناتجة عن إجراءات التيسير الكمي. ومن غير الواضح حتى الآن أي مشكلات يمكن أن تواجه القطاع المالي عندما يحدث تغير مفاجئ في بيئة السياسة النقدية، بيد أن الخسائر المحتملة التي واجهتها صناديق معاشات التقاعد في المملكة المتحدة عام 2022 تمثل إنذارا صارخا. فقد استخدمت تلك الصناديق أساليب كان من المحتمل أن تؤدي بعد توقف العمل بها إلى تشوهات خطيرة في أسعار الفائدة على المدى الطويل، وإشعال أزمة أكبر. واضطر بنك إنجلترا إلى التدخل لشراء السندات البريطانية للحيلولة دون حدوث أزمة بعد ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل.

وقال صندوق النقد الدولي، إن اليوم، في بيئة تجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، يتعارض هدفاها المتمثلان في استقرار التضخم والاستقرار المالي. فقد أدى اعتماد القطاع الخاص، ولا سيما أسواق رأس المال، على السيولة من البنوك المركزية، إلى موقف تظهر فيه هيمنة القطاع المالي، حيث تكون السياسة النقدية مقيدة بسبب المخاوف المتعلقة بالاستقرار المالي. ففي مثل هذه البيئة، قد يُحدث تشديد السياسة النقدية فوضى في القطاع المالي، ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة للتأثر حتى بالاضطرابات البسيطة. ويعتمد مدى هيمنة القطاع المالي على ما إذا كانت البنوك الخاصة تتمتع برسملة كافية بحيث تتحمل الخسائر، وعلى سلاسة إجراءات إفلاس البنوك الخاصة. ومن شأن وجود قانون فعال للإعسار أن يعزل النظام عن أثر التداعيات الناجمة عن فشل أي مؤسسة منفردة، وأن يحد من احتمال أن يشعر البنك المركزي بالاضطرار إلى التدخل لإنقاذها. وتجعل هذه القضايا من الصعب على البنوك المركزية تخفيض التضخم دون التسبب في حالة ركود كما أنها تُضعِف إلى حد ما من استقلاليتها الفعلية.