هل تتوافق عقلية الناتو مع فكرة الحد من التسلح؟

16 يونيو 2021
16 يونيو 2021

في عهد دونالد ترمب، كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) محظوظا لمجرد البقاء على قيد الحياة. في عام 2019، حَـذَّرَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن الحلف أصبح في حكم «الميت دماغيا». مع انعقاد أول اجتماع شخصي وجها لوجه بين قادة الحلف والرئيس الأمريكي جو بايدن هذا الأسبوع، يتنفس حلفاء أمريكا الصعداء. ولكن يظل لزاما على الناتو أن يثبت أن عقله، وليس قوته العضلية وحسب، مؤهلا للتصدي للمشكلات التي تواجهه. لتحقيق هذه الغاية، سيكون الحد من التسلح خطوة ذكية كبداية.

الواقع أن سجل الناتو في التعامل مع هذه القضية يستحق الفخر. قَـدَّمَ الحلف أول اقتراحاته في ما يتصل بنزع السلاح النووي في عام 1957، في إطار مؤتمر الأمم المتحدة لنزع السلاح في لندن. وحتى في أحلك فترات الحرب الباردة، سعى الحلف إلى التفاوض على تخفيضات متبادلة ومتوازنة للقوة مع حلف وارسو. وفي عام 1987، دعم الناتو الرئيس الأمريكي رونالد ريجان في التفاوض على الحظر الأمريكي السوفييتي على الصواريخ النووية المتوسطة المدى، وساعد هذا بدوره في تمكين البلدان الأعضاء من تقليص عدد الأسلحة النووية المكرسة للدفاع في إطار الناتو. والآن، انخفضت هذه الترسانات بأكثر من 85% منذ نهاية الحرب الباردة.

لكن في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، كان من الواضح أن الناتو مُـفـتَـقَـد في جهود الحد من التسلح. لا يملك أمينه العام ينس ستولتنبرج الذهاب إلى ما هو أبعد من المدى الذي يسمح له به حلفاء الناتو الثلاثون. وهو يصر على أن «الحد من التسلح جزء من حمض الناتو النووي». لكن الحلف كان يتعامل مع هذه القضية كما لو كانت ذات أهمية ثانوية وليست من المبادئ المرشدة. يشير خطاب ألقاه ستولتنبرج في مؤتمر الناتو حول الحد من التسلح في أكتوبر من عام 2019 إلى السبب وراء هذا القصور. أولا، حث ستولتنبرج حلفاء الناتو على الحفاظ على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وتنفيذها ــ فهي حجر الزاوية في ضبط النفس النووي على المستوى الدولي. في هذا السياق، لم يدعم أعضاء الناتو أقوالهم بالأفعال. بل على العكس من ذلك، رفعت المملكة المتحدة، على سبيل المثال، سقف ترسانتها من الأسلحة النووية للتو، وهذا من شأنه أن يجعل من الأصعب كثيرا أن تَـدَّعي القوى النووية الأخرى في حلف شمال الأطلسي (وأولئك الذين تحميهم) أنها حريصة على صيانة روح معاهدة منع الانتشار النووي. ثانيا، وجه ستولتنبرج الدعوة إلى أعضاء الناتو لتكييف أنظمة الحد من التسلح النووي مع الحقائق الجديدة. لكن التوجيه الوحيد الذي قدمه كان مجرد ردة فعل: فقال، يتعين على الحلف أن يرد «بطريقة دفاعية، مدروسة، ومنسقة على التهديد الصاروخي الروسي الجديد».

مع نضوب معين أفكاره، استجاب الناتو لمقترحات الحد من التسلح الروسية المتكررة إما بالصمت أو الرفض التام. لا شك أن هذا الموقف لا يعزز صورة الحلف سواء في الداخل أو على الصعيد الدولي. لماذا لا نسعى إلى إعلاء المبادئ الأخلاقية من خلال تقديم مبادرات الحد من التسلح للكرملين، أو على الأقل توضيح ما يعيب المقترحات الروسية؟ من المؤكد أن النقطة الثالثة التي أوردها ستولتنبرج تعني أن الناتو يحتاج إلى تحديث إطار العمل الذي يحكم الأنشطة العسكرية غير النووية الروسية أو الأوروبية أو تلك التي يزاولها الناتو (ما يسمى وثيقة فيينا).

وفي عام 2020، قدم الحلف مقترحات شاملة، لكن المندوبين الروس عرقلوها بشدة. لكن لا أحد تقريبا يعلم أن شيئا من هذا القبيل حدث بالفعل، لأن حلف شمال الأطلسي لا يجاهر بدعمه للحد من التسلح بما يكفي لاكتساب أي مصداقية بشأن هذه القضية.

أخيرا، دعا ستولتنبرج إلى وضع قواعد ومعايير جديدة لتنظيم التكنولوجيات الناشئة. حسنا، لقد مَـرّ ما يقرب من العامين على إلقاء ذلك الخطاب. فأين مقترحات الناتو؟

يقول قادة الناتو إنهم يحرصون على الإبقاء على الباب مفتوحا أمام حوار حقيقي هادف مع روسيا، ومع ذلك لم يقدم الحلف أي أفكار جادة. بل يفضل ببساطة انتظار روسيا، وبالتالي تسليم المبادرة للخصم.

أنا أعتبر ستولتنبرج صديقا، وأعلم أنه لن يدخر جهدا لتحقيق المزيد في هذا السياق إذا سمح له أعضاء الناتو. الواقع أن محاولة بناء الإجماع حول الحد من التسلح بين ثلاثين من الحلفاء الذين يحملون وجهات نظر متباينة مهمة لا يُـحـسَـد عليها أحد. ولكن الآن بعد أن أتيحت للحلف الفرصة للتنفس من جديد، فلم يعد لديه أي عذر لامتناعه عن «تحويل أقواله إلى أفعال».

علاوة على ذلك، عادت قضية الحد من التسلح إلى الأضواء من جديد: فقد وافقت الولايات المتحدة وروسيا على تمديد معاهدة ستارت الجديدة لمدة خمس سنوات أخرى، وأعربت إدارة بايدن عن رغبتها في اتخاذ المزيد من تدابير الحد من التسلح. في الماضي، كانت مفاوضات الحد من التسلح واحدة من أكثر المجالات جدارة بالثقة في إيجاد أرضية مشتركة مع روسيا. لإحياء هذا التقليد، يتعين على أعضاء الناتو الأوروبيين تقاسم بعض العبء الفكري مع إدارة بايدن. بحكم التعريف، تُـعَـد جهود الحد من التسلح مكسبا لكل من يشارك فيها. وإذا أديرت على النحو اللائق، فإنها كفيلة بتوفير المزيد من الاستقرار، وتحسين القدرة على الردع، والحد من المخاطر، وخفض التكاليف. بوضع كل هذا في الاعتبار، يحتاج الناتو إلى وضع قضية الحد من التسلح في صميم المفهوم الاستراتيجي الجديد الذي يخطط لإطلاقه العام المقبل، حتى لا تصبح الزيادات المستمرة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي وقودا لسباق تسلح جديد.

وينبغي للناتو أن يعمل على إنشاء قسم للحد من التسلح لتسهيل الـفِـكر الجديد حول مستقبل العملية والمخاطر والفرص المرتبطة بالتكنولوجيات الجديد. ويجب أن يبدأ حوارا شاملا بين من يملكون الأسلحة النووية ومن لا يملكونها في مختلف أنحاء العالم. بدلا من الدوران حول المكان إلى الأبد، يتعين على حلف شمال الأطلسي أن يعكف على إنتاج أفكار خاصة به حتى يتسنى له الاستجابة بمصداقية لمقترحات خصومه واستعادة دوره القيادي. إن إحياء أجندة الحد من التسلح ضرورة أساسية للدفاع الجماعي في إطار الحلف ــ ولإثبات تعافيه من تجربة اقترابه من الموت.

** سفير المملكة المتحدة السابق في الناتو، ورئيس شبكة القيادة الأوروبية.

** خدمة بروجيكت سنديكيت