مواجهة الوباء المعلوماتي

11 مايو 2021
11 مايو 2021

أ.د. حسني محمد نصر -

هل يمكن أن تصبح المعلومات وباءً على المجتمع الإنساني. قد يبدو للبعض أن كل المعلومات التي تمدنا بها المنصات الإعلامية المختلفة ليل نهار تصب في صالحنا وفي الصالح العام للمجتمع، وتؤدي إلي زيادة معارفنا عما يدور حولنا من أحداث لا نستطيع بحواسنا المحدودة الوصول إليها. ومع ذلك فإن هناك نوعا من المعلومات تضر ولا تفيد، وتتحول من نعمة ووسيلة للمعرفة إلى نقمة ووسيلة للهلاك.. إنها المعلومات الخاطئة أو الزائفة أو المضللة التي تصبح في هذه الحالة وخاصة في أوقات الأزمات وباءً على الجميع.

من هنا جاء مصطلح «الوباء المعلوماتي»، الذي يعود تاريخ استخدامه لأول مرة في عام 2003 في سياق نقد المعالجات الإعلامية لأزمة انتشار المتلازمة التنفسية الحادة «سارس»، الذي كان أول وباء عالمي يشهده القرن الحالي، والذي انطلق من آسيا وانتشر في دول كثيرة قبل أن يتم الانتصار عليه.

في هذا الوقت لم تكن شبكات التواصل الاجتماعي قد انتشرت وتغلغلت في كل مفاصل الحياة البشرية في العالم، كما هو حادث اليوم. وقد عاد مصطلح «الوباء المعلوماتي» ليطل علينا مرة أخرى ويتصدر النقاشات الدولية في جائحة كورونا الحالية مع تزايد الاهتمام الدولي من جانب المنظمات الدولية والمنظرين والباحثين، بمحاولة فهمه وتقريبه إلى الناس وتحذيرهم منه.

مع بدء الانتشار العالمي لجائحة كورونا، أطلق الأمين العام للأمم المتحدة في أبريل من العام الفائت مبادرة للاستجابة في مجال الإعلام من أجل مكافحة تفشي المعلومات الخاطئة والمضللة، وفي الشهر التالي أصدرت الأمم المتحدة مذكرة إرشادات بشأن التصدي لخطاب الكراهية ومواجهته في سياق مواجهة جائحة كورونا.وفي اجتماع الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية في مايو 2020، اعتمدت الدول الأعضاء قرارا اعترفت فيه بأهمية مواجهة «الوباء المعلوماتي» باعتبار أن هذه المواجهة تمثل ركيزة أساسية من ركائز جهود السيطرة على جائحة كورونا، ودعت الدول إلى إتاحة محتوى معلوماتي موثوق عنها، واتخاذ تدابير لدحض وتفنيد وتصحيح المعلومات المضللة والخاطئة بشأنها، وتسخير التكنولوجيات الرقمية في شتى جوانب الاستجابة لهذه الجائحة. ودعا القرار المنظمات الدولية والإقليمية إلى التصدي للمعلومات الخاطئة والمضللة في الفضاء الرقمي، والتصدي للأنشطة الإلكترونية الضارة التي تحد من فعالية الاستجابة الصحية للجائحة، وإتاحة البيانات العلمية الدقيقة للجمهور.

وفي سبتمبر الفائت أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانا مشتركا مع الأمم المتحدة وعدد من المنظمات والاتحادات الدولية، أشارت فيه إلى «الوباء المعلوماتي» الذي صاحب جائحة كورونا، باعتبارها أول أزمة صحية في التاريخ الإنساني تستخدم فيها منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية على نطاق واسع.

ووصفت المنظمة الدولية الوباء المعلوماتي، بأنه يفوق في خطورته وباء كورونا، كونه «يزهق الأرواح، ويُضيع جهود حملات الترويج للقاحات الفعالة، ويقوض جهود الاستجابة العالمية للجائحة، ويهدد التدابير الصحية التي تتخذها الدول على المستوى الوطني لمكافحة الجائحة».

وتُعرف منظمة الصحة العالمية الوباء المعلوماتي بأنه «التدفق الكبير من المعلومات الخاطئة والمضللة على شبكة الإنترنت وخارجها، الذي يؤدى إلى تقويض الاستجابة في مجال الصحة العامة، ويلحق الضرر بصحة الناس الجسدية والنفسية؛ ويهدد الأنظمة الصحية؛ ويشجع على عدم التقيد بتدابير الصحة العامة، وهو ما يحدّ بالتالي من فعالية هذه التدابير- رغم كلفتها الاقتصادية الهائلة- ويهدد قدرة الدول على وقف مسار الجائحة».

وفي تقديري أن الوباء المعلوماتي يشير بشكل عام إلى إنتاج وتوزيع معلومات تختلط فيها الحقائق بالشائعات، والتطمينات بالمخاوف، والتوجيهات العلمية بالخرافات، حول شيء ما، وليس حول الأمراض أو الأوبئة فقط، باستخدام تكنولوجيات الاتصال الجديدة وعبر جميع المنصات الإعلامية المتاحة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى صعوبة تمييز المعلومات والإرشادات الصحيحة حول هذا الشيء. وعلى هذا الأساس يمكن أن نرصد أوبئة معلوماتية عديدة في قضايا عالمية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر الوباء المعلوماتي الذي ينشره الإعلام الدولي عما جرى ويجرى طوال شهر رمضان المبارك في القدس الشريف بين المدافعين عن المسجد الأقصى وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي.

مع ذلك فإن الوباء المعلوماتي يبدو أكثر خطورة في جائحة كورونا من القضايا الأخرى، إذ أن تبعات وباء المعلومات المضللة في هذه الجائحة يمكن أن تكون قاتلة، خاصة إذا نجحت هذه المعلومات في خداع المواطنين، وجعلتهم غير قادرين على فهم وتنفيذ التدابير الوقائية ذات الأسس العلمية، أو دفعتهم إلى اللجوء إلى علاجات وهمية زائفة.

لا يجب ونحن نتحدث عن الوباء المعلوماتي أن نتجاهل الجانب المشرق والدور المهم الذي قامت وتقوم به وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي خلال جائحة كورونا، سواء في إحاطة الناس بالمعلومات الصحيحة، وإعلامهم بالجائحة ومدى انتشارها على المستويين الدولي والوطني، ونشر تدابير الحماية، وضمان استمرار التواصل الاجتماعي الفعال بين البشر، واستمرار الأنظمة التعليمية في العمل في ظل التباعد الاجتماعي، وفي ظل حالات الإغلاق الجزئي والشامل.

علينا أن نعترف بأن وجود واستخدام هذه الشبكات في ظل ظروف التباعد الاجتماعي أسهم في تقديم بعض أشكال الدعم العاطفي لملايين الأشخاص، سواء المصابين بالفيروس أو عائلات وأصدقاء المرضي والضحايا. والأهم، من وجهة نظري، أن تكنولوجيا الاتصال والمعلومات الجديدة كانت وراء سعي صانعي السياسات والمؤسسات الصحية لتطوير أشكال لا تُعد ولا تُحصى من تطبيقات الصحة الرقمية، مثل تطبيقات الهواتف الذكية لتعقب مصابي كورونا، وتطبيقات العلاج عن بعد، والروبوتات الآلية التي تفحص المرضى، وحتى برامج مراقبة وحدات العناية المركزة الإلكترونية بالمستشفيات ومؤسسات العزل، والتي تسمح للممرضين والأطباء في مراكز متعددة بمراقبة حالة المرضى عن بعد.

وقد أثبتت تلك التطبيقات أن وسائل وتقنيات الإعلام الاتصال- الأجهزة والبرامج- يمكن أن تُوظف في الحفاظ على صحة الناس، ومساعدة المرضى على التعافي، وبالتالي تقليل الطاقم الطبي، والحد من انتشار الفيروس. ومع هذا يبقى الخطر قائما من المعلومات الخاطئة التي تختلط بالمعلومات الصحيحة، والتوجيهات المغرضة وغير العلمية التي لا يمكن للشخص العادي تمييزها عن الإرشادات الصحيحة والعلمية. وبين الأصوات التي ترى أن شبكات التواصل الاجتماعي استطاعت خلال الجائحة أن تُخرج أفضل ما في البشر من مشاعر التعاطف والمواساة، ومكنتهم من تبادل تقديم الدعم المعنوي لأصدقائهم وحتى لغير أصدقائهم، وسمحت للملايين بالتعبير عن تجاربهم في العيش بمفردهم في المنزل خلال جائحة عالمية، وتقديم ما يمكن أن نسميه شبكة أمان افتراضية، وبين الأصوات المضادة التي تلقى اللوم بشكل مباشر على شبكات التواصل الاجتماعي لنشر أخبار كاذبة ومعلومات مضللة حول فيروس كورونا، وإثارة نظريات المؤامرة، وتضخيم أصوات الكراهية والعنصرية والخوف في جميع أنحاء العالم، فإننا يمكن أن نتبنى صوتا ثالثا وسطا يدعو إلي استثمار الجوانب الإيجابية في الإعلام الجديد من جانب في مواجهة الأزمات والأوبئة، والتصدي في نفس الوقت للوباء المعلوماتي المصاحب للأزمات، وذلك عبر مكافحة المعلومات الخاطئة والمضللة، وقيام الدول بإعداد وتنفيذ خطط عمل للتصدي لها عن طريق تعزيز إتاحة المعلومات الصحيحة والدقيقة والقائمة على العلم، وبثها في الوقت المناسب، لجميع فئات المجتمع، خاصة الفئات الأكثر عرضة للخطر.

ويبقى على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي التي تنتشر من خلالها المعلومات الخاطئة والمضللة- وفقا لتوصية منظمة الصحة العالمية- أن تعمل على تصميم وبناء استراتيجيات وأدوات فعالة من أجل التصدي للوباء المعلوماتي.