من يملك ناصية العقد الاجتماعي؟

01 أغسطس 2021
01 أغسطس 2021

يشكل الرأس المال الاجتماعي حمولة غير منكورة الوزن والتأثير في كل ما من شأنه أن يعطي العقد الاجتماعي المساحة الآمنة للبقاء والاستمرار، والالتزام، وإطالة عمره في ظروف بالغة التعقيد وقادرة على توجيه البوصلة نحو التحرر من كثير من التزاماته، وبقدر الخوف على مجموعة الرهانات التي لا تعطي العقد الاجتماعي نفسا أكثر للبقاء والعطاء، إلا أن الأمل لا يزال كبيرا، في تموضع معززات هذا العقد، رغم الظروف المستجدة في حياة الناس، فلا يزال – على سبيل المثال - عقد الحفاظ على الممتلكات العامة باقيا، ولا يزال المؤازرة الخالية من البحث عن مقابل بين أفراد المجتمع معززة بالحرص عليها، ولا يزال عقد الاحترام والتقدير بين مكونات المجتمع يؤتي أكله كل حين، ولا يزال عقد النصيحة في أوج تفاعله، ولا يزال عقد مجموعة التوافقات بين مكونات العمل في القرى والمدن حاضرة، ولا يزال عقد مساعدة المحتاج قبل أن يمد يده يستل منبعه الإيماني الصادق، ولا يزال عقد إعطاء كل ذي حق حقه قبل أن يطلبه؛ يعيش سخاءه ورخاءه، ولا يزال عقد تبادل الحاجيات والمنافع دون مقابل تتدافع عليه الأنفس صادقة راضية، ولا تزال الكثير من العقود المبرمة بصورة غير رسمية حاضرة في وجدان أبناء المجتمع.

يحل العقد الاجتماعي؛ كأول مفهوم تستوعبه الثقافة الاجتماعية الشاملة؛ حيث يندر أن يكون هناك فهم ما؛ ولو بسيط؛ يغيب مفهوم العقد الاجتماعي، أو يطرح تساؤلا عن ماذا يعني أن يكون هناك عقد بين أي طرفين تجمعهما مصلحة ما؟ وهو مفهوم ممارس أكثر منه أن يكون معرفا تعريفا علميا أو لغويا، إلا عند أصحاب المعرفة – المتخصصين - حيث تخضع كل المفاهيم إلى تعريفات علمية ولغوية، ومن فرط معرفة العقد الاجتماعي كممارسة، يتسلسل هذا الفهم حتى لدى الذاكرة الجمعية الصغيرة، إلى درجة أنه مستوعب من قبل الأطفال الذين لم تصوب سلوكياتهم خبرة الحياة بعد، فتراهم يتفقون بقبضة اليد؛ كأول اتفاق مبرم بينهم، صحيح أن في ذلك انعكاس لسلوكيات الكبار، ولكن أن يستوعبه صغار السن، ويقرونه قانونا عرفيا بينهم في شأن مختلف الاتفاقات، فهذا يعني أن المجتمع مخضّب بالود أولا؛ ومعظَّمٌ بالإحساس بالمسؤولية المتبادلة بين أفراده، صحيح أن العقود تعطى مستوى معينا من الفهم، حيث تلصق بالممارسات السياسية؛ وخاصة؛ في العلاقة بين الأفراد وحكوماتهم، وينتهي الفهم عند هذا الحد، ولكن الواقع يستحضر العقد في كل الممارسات القائمة بين الناس، ومن فرط الأهمية التي يشكلها العقد في هذه العلاقة، أنك مطالب كفرد محكوم عليه بالفناء عاجلا أو آجلا، أن تبرم عقدا على نفسك "الوصية" تحدد فيه إرثك بعد مماتك، حتى لا يتقاتل من يأتي بعدك في هذا الأمر (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ . فَمَنۢ بَدَّلَهُ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَاۤ إِثۡمُهُ عَلَى ٱلَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ) – الآيتان (180-181) من سورة البقرة – والتفويض الممنوح للوصي لا يتيح له أن يغير في مضمون العقد، وغايته، بأي حال من الأحوال، فهل هناك أكثر أهمية من المكانة التي يحفل بها هذا العقد في مفهوم العقود؟ ولذلك يكفي أن تمد يدك للطرف الآخر لكي تبرم معه عقدا ما في أي شأن من شؤون العلاقة بينكما، وهذه الصورة تعكس مدى توغل مفهوم العقد بين الأطراف في مختلف شؤون حياتهم اليومية، فكلمة "اتفقنا" التي تصدر من أحد الطرفين، وتأكيد الطرف الآخر عليها، كافية لأن تحمّل كلا الطرفين مسؤولية إتمام ما تم الاتفاق عليه، وكافية لأن تؤرخ في النفس ذلك الاطمئنان الكبير بأن الطرف الآخر سوف يوفي بما تم الاتفاق عليه، وهذه قمة الثقة في العلاقات المبرمة بين كلا الطرفين، ولا يزال هذا السلوك قائما حتى هذه اللحظة على الرغم مما نسمعه في مواقف كثيرة من الإخلال بالعقود حتى المكتوبة، وليست الشفهية فقط.

يفترض في مفهوم العقود أن لا يكون هناك غالب ومغلوب، وذلك لسبب بسيط، وهو أن العقد يمثله طرفان، اتفقا عليه، ووقعا عليه، فحالة الرضى التي صاحبت الوصول إلى اتفاق بين طرفين يفترض أن تضفي نوعا من السلم والأمان الاجتماعيين، حيث انتفاء استغلال المواقف، وهنا ما يحرر العقود؛ غالبا؛ من الفهم السياسي لها، فالعقود السياسية قد تشهد نوعا من الضغوط الممارسة على طرف دون آخر، أو تقديم مصلحة طرف على آخر، وبالتالي يجوز أن تتداخل مفاهيم الاستغلال، والعزف على وتر الحاجة أو الضعف لدى طرف ما، أما في العقود الاجتماعية، والعقود التي تخرج من الصبغة السياسية فإنها تظل الأقرب إلى الرضى، وإشاعة الطمأنينة بين أطراف العقد، وهنا لا يمكن القول إن العقود تفضي إلى خروج المغلوب أي "عقود خاسرة" وأن هناك طرف غالب ومتسيد ومتربح بميثاق عقد ما دون آخر.

تتخلل مفاهيم العقود التجارية الكثير من المفاهيم، ومنها: عقود آجلة الدفع، وعقود واجبة الدفع، ومع ذلك يمكن إسقاط مفاهيم العقود التجارية على كثير من الممارسات الاجتماعية لدى أبناء المجتمع، فهذا الدفع الذي يصرح به العقد التجاري، يمكن أن يتحول إلى ممارسة مباشرة في الفهم الاجتماعي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنتفي العلاقات الاجتماعية بين الأفراد من مفهوم العقد الآجل الدفع، والعقد الواجب الدفع فـ"يوم لك ويوم عليك" وإن لم توثق هذه العقود من هذا النوع في صك موقع من كلا طرفي العلاقة، وهذا ما تثبته مجموعة التفاهمات بين الناس في شؤون حياتهم اليومية، فكم من اتفاقات تتم، تلزم؛ بصورة غير مباشرة؛ كلا الطرفين بتقديم خدمة ما، أو المساعدة على إنجاز ما، تبادل الأدوار في أمر ما من أمور حياتهم اليومية، وبالتالي فكل هذه الصور هي لا تخرج عن مفهوم العقد الملزم، وإن كانت الممارسات التي تتم بين أفراد المجتمع هي أقرب إلى العرف منها إلى العقد الرسمي الموقع من طرفين أو أكثر، ومن هنا يأتي مشروع الأمانات المقبوضة بين الناس في أي شأن من شؤون الحياة، وقد تتجلى الأمانة كأحد الصور الراقية في التعامل، وفي الثقة (... فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ...) – الآية (283)البقرة.

من فرط توغل مفهوم العقود في حياتنا، نكاد لا نفكر في أي علاقة مع الآخر، إلا ويكون العقد حاضرا على صفحة الذاكرة، حتى وإن أزحنا مفهوم الربح من هذه العلاقة، وحتى وإن لم نستحضر الورقة والقلم لكتابة عقد ما موقعا من كلا الطرفين، حيث تستحضره الفطرة انعكاسا لممارسة مستمرة، ومتكررة، طوال حياة الأفراد، في مختلف مناخات هذه العلاقة التي تربطهم فيما بينهم، ولذا قد ينظر إلى العرف على أنه واحد من العقود المبرمة بين الأفراد في مجتمعهم الذي يعيشون فيه، فمجمل الاتفاقات التي تحدث بين أبناء المجتمع في كثير من الممارسات المتبادلة، والتي قد تحقق مكاسب لمختلف الأطراف هي قائمة على العرف الاجتماعي أكثر منه على العقد المبرم والموقع من مختلف الأطراف، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وأهميتها هو تجاوز المفهوم الرسمي لمعنى العلاقات بين الأطراف في كثير من شؤون حياتهم اليومية، وفي ذلك ما فيه من التعاون، والتوافق، وهو ما يعكسه الشعور الجماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وإن تبدل الحال اليوم قليلا، حيث تدخلت مفاهيم الرأسمالية بصورة غير مباشرة على الذاكرة الاجتماعية، وأحدثت مجموعة من الاختراقات، مما أدى إلى تضعيف العرف، إلى حد كبير، وهذا أمر متوقع في ظل تشرب الثقافات، وعمليات التأثر والتأثير الذي تسوقه مفاهيم العولمة، كأحد صورها الحاضرة، وقد ساعدت بعض السلوكيات من بعض الأفراد في كسر الفهم التقليدي للعرف، وللعقد غير المباشر في كثير من التعاملات القائمة بين الأفراد، وعسى أن تكون هذه النتوءات الخارجة لن تخرج عن حالة الاستثناء المقبولة في ممارسات الأفراد.