معركة القدس الجديدة.. وخيار الدولتين

12 مايو 2021
12 مايو 2021

د. عبدالله باحجاج -

دائما، يخطئ الكيان الإسرائيلي في حساباته السياسية، وأخطائه الجديدة فاضحة، وجاءت في توقيت سياسي في غاية الأهمية للقضية الفلسطينية. ولن نبالغ إذا ما قلنا، بأنها «أي القضية الفلسطينية» كانت تحتاج لمثل هذه الأخطاء الكبيرة، كما كان يحتاجها أنصار حل الدولتين، دولة فلسطينية، وأخرى إسرائيلية تتعايشان على أرض فلسطين التاريخية،

وفق ما تم إقراره في قرار مجلس الدولي رقم 242. لكن هل سلطات الاحتلال ستستفيد من أخطائهم الكبيرة هذه المرة وتنصاع لانكشافات التأثير النوعي لتطور القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية؟

لو وقفنا عند ما أحدثته الرشقات الصاروخية الفلسطينية من هزيمة معنوية للمحتلين من جهة وما ترتب عليها من إفشال لما يسمى بالقبة الحديدية الإسرائيلية، وما تنتجه من حالة قلق من تطور قوة المقاومين السرية، فإنها تعطينا مجموعة نتائج كبرى بعضها قديمة وتتجدد الآن بصيغ حديثة، وأخرى جديدة وغير متوقعة.. أبرزها:

النتيجة الأولى:

أن القدس المحتلة هي جوهر الصراع مع المحتل، وأنها أغلى من الأرواح، فهل تفهم سلطات الاحتلال هذه الرسالة القديمة/ الجديدة؟ لو كانت تفهمها لما أقدمت على أخطاء تاريخية جسيمة، فماذا كان تتوقع من اقتحام باحات المسجد الأقصى الشريف، والاعتداء على المصلين؟ ماذا كان يتوقع من التهجير القسري والذي هو تطهير عرقي لسكان حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة؟ ويا له من استفزاز متوقع تداعياته، عندما يشارك أعضاء في الكنيست مسيرة اقتحام المسجد الأقصى!!.

هذه الأحداث هي التي فجرت معركة القدس الجديدة، وما عداها تشكل ردة فعل مشروعة، ومتوقعة، لمركزية القدس عند كل الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين على السواء، فهل يعتقد الكيان المحتل أن الظروف مواتية لفرض سيادته على القدس بما فيها الأقصى الشريف؟ هنا، نجده يقع في كبرى أخطائه المعاصرة، فوعيه لم يرشده إلى مركزية القدس عند الفلسطينيين كلهم، لو أرشده سيرى أن عليه إبادة الشعب أولا قبل أن يفكر في السيادة الكاملة على القدس والأقصى خصوصا.

وهذا الإخفاق يرجع لسببين، أولهما، طبيعة فكر المحتل، الذي يحكمه عقلية الأنانية والتسلطية والوصولية والعنصرية والغرور بقوته العسكرية، وكذلك فهمه الخاطئ للتسابق العربي نحو التطبيع معه، وبالمجان.

النتيجة الثانية:

- تطور قدرات المقاومة الفلسطينية، وتعطي الرشقات الصاروخية، وتكتيكات إطلاقها - نوعيا وكميا - وكذلك مسارات سقوطها، نضوج الفكر التخطيطي والقتالي لرجال المقاومة، وتشير إلى أن لدى المقاومة الفلسطينية مفاجآت جديدة تقلق المحتلين، وأنهم يعيشون الآن في رعب من المستقبل.

النتيجة الثالثة:

تدفع القوة المتبادلة في معركة القدس الجديدة، وصدقية ما تقوله المقاومة أثناء المعركة، إلى القناعة الكاملة بأن الحل السلمي والدائم، لن يكون على حساب الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وأن على العالم أن يبحث عنه - أي السلام - بين المقاوم والمحتل، وليس في عواصم التطبيع أو التنديد.

وقد كان موقف السلطنة موضوعيا في توصيفاته ومفرداته، ولافتا للمراقبين، واللافت فيه، أنه لم يغرق في ردود الفعل التي أعقبت محاولات المحتل فرض سيادته على القدس، مثل ما غرقت مواقف كثيرة والتي لم تفرق بين فعل المحتل وما أثاره من رد العدوان من قبل المقاومة الفلسطينية.

فموقف السلطنة ينطلق من الفعل المنتج للأحداث التالية للفعل العدواني، والتي تفجرت في كل أنحاء فلسطين المحتلة، وهى طبيعية ومتوقعة لفعل غير طبيعي، فبعد أن أعلنت مسقط تضامنها مع الشعب الفلسطيني الشقيق، وتجديد تأييدها لحقوقه المشروعة اعتبرت ما قام به المحتل في المسجد الأقصى الشريف، وفي الأماكن الإسلامية الأخرى اعتداءات، ووصفت الإجراءات الإسرائيلية ضد سكان القدس بالتعسفية، واعتبرت ما يحدث لسكان حي الشيخ جرار بالقدس تهجيرا، وثم اعتبرت كل ذلك، مرفوضا ومستنكرا «جملة وتفصيلا» أي غير قابل للنقاش أو قبول الأعذار من سلطات الاحتلال.

وتبين معركة القدس الجديدة صحة الفكر السياسي العماني الذي قاوم ضغوطات التطبيع رغم قهريتها في عهد ترامب، ورغم حجم الاستفادة العمانية المتعددة من ورقة التطبيع، وهي في أمس الحاجة لها، لكنها، كانت لها نظرة بعيدة المدى، وتتأكد صحتها دائما، وهنا نتساءل، لماذا لم يمنع التطبيع الحديث سلطات الاحتلال من عدم تنفيذ مخططاتها العدوانية في فرض السيادة الكاملة على القدس المحتلة؟ ولهذا التساؤل، استفسار عكسي، وهو، هل كان لهذا التطبيع من دور - ولو معنويا- في اختيار إسرائيل هذا الوقت لتحقيق أطماعها في الأرض والمقدسات؟

تؤكد معركة القدس مجددا، أنه لا يمكن الرهان على أي سلطة سياسية إسرائيلية لصناعة سلام تاريخي مع العرب، ولا حتى الثقة في التطبيع معهم، ما لم تفرض قوة عالمية خيار الدولتين، وهو الحد الأدنى العربي المقبول، فهل أمريكا في عهد بايدن تملك هذه القوة أو يمكن أن تصنعها بالاشتراك مع القوى العالمية الأخرى؟ وهل ستنصاع لها سلطات الاحتلال؟

لا يمكن التقليل من دروس معركة القدس الجديدة التي هزت الكيان، وفاجأت العالم بالدور القتالي للمقاومين، وبدقة حساباتهم في معركة القدس، ومعركة القدس هي في حقيقتها مجموعة معارك داخل معركة واحدة، من بينها معركة الذكاء، فانتصر فيها الذكاء العربي الفلسطيني، معركة وجود، فلا حياة دون القدس، معركة تفوق المقاومين رغم الحصار المحتل، فمن رحم هذا الحصار والفقر، طوروا قوتهم حتى أصبحت الآن تشكل معادلة مقلقة للاحتلال الإسرائيلي.

لكن في المقابل، فإن معركة القدس الجديدة يمكن أن توظف لصالح السلام، لأن المحتل لن يخرج فيها منتصرا بعد أن سجل في تاريخه مجموعة إخفاقات عسكرية وأمنية وسياسية، فسيكولوجيته المنهزمة والمقلقة من المستقبل يمكن أن تشكل عامل انفتاح مرحلي لجهود السلام، المطلوب الآن جهود دولية ضاغطة.