مستقبل أرضيات الحماية الاجتماعية بعد كوفيد 19

31 يوليو 2021
31 يوليو 2021

ثمة إلحاحات غير مسبوقة فرضتها جائحة كورونا (كوفيد 19) على بنية السياسات الاجتماعية فيما يتصل بمدى كفاءة واستدامة منظومات الحماية الاجتماعية، في ظل دفع الجائحة لفئات وشرائح اجتماعية واسعة إلى منطقة المخاطر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي بالإضافة إلى ولوج نسب متفاوتة من السكان حول العالم إلى براثن الفقر، ففي القراءات الأولية للبنك الدولي بنهاية عام 2020 فإن الجائحة دفعت نحو 88 مليون شخص آخر في براثن الفقر المدقع خلال عام واحد من انتشارها. وهو ما ينبه بالضرورة في تقديرنا إلى ثلاث ضرورات قصوى تقتضي تأطير شبكات أمان اجتماعي فاعلة، والانتقال بالتضامن الاجتماعي من حالته العفوية إلى الحالة المؤسساتية المؤطرة والمقترنة بأطر استراتيجية، ووجود نظام متكامل للحماية الاجتماعية يتأسس على ما يعرف بـالسياسات الاستباقية لدرء المخاطر الاجتماعية.

رغم انخراط حكومات العالم خلال العقود الأخيرة مدفوعة بأجندة التنمية الدولية إلى تحسين نظم الحماية الاجتماعية فيها، إلا أن هذه الأنظمة ظلت تعاني إشكاليات مركزية، لعل أهمها عدم قدرتها على التمحور وفق مبادئ حقوق الإنسان، عوضًا عن مهددات استدامتها، ومعيقات تمويلها، بالإضافة إلى التشظي في المبادرات والشتات في البرامج وعدم الدقة والموضوعية في الاستهداف والشمول، وبحلول الجائحة فإن منصة الحماية الاجتماعية التابعة لمنظمة العمل الدولية تكشف أن 31% فقط من سكان العالم يستطيعون الوصول إلى أنظمة الحماية الاجتماعية الشاملة لجميع مجالات الحياة، وأن 47% فقط من سكان العالم مشمولون بميزة نقدية واحدة فقط من إعانات أنظمة الحماية الاجتماعية، وأن 19% فقط من العاطلين عن العمل في كل أنحاء العالم يحصلون على إعانات البطالة، و26% من الأطفال فقط مستفيدون من مزايا أنظمة الحماية الاجتماعية، كما تكشف التحليلات عن قصور واسع في مدى استهداف النساء في أنظمة الأمان الوظيفي، وأنظمة الحماية الاجتماعية في مراحل الحمل والولادة. ولنا أن نتصور كيف تعززت هذه المهددات بحلول الجائحة في ظل تعطل الاقتصادات الوطنية، وتزايد موجات التسريح من الأعمال، وانهيار الشركات والأعمال التجارية، وتعطل المؤسسات العامة، والحاجة إلى توجيه الموازنات العمومية لأغراض مواجهة الجائحة وإيجاد تدابير للتحفيز والتعافي الاقتصادي.

ومع ذلك فإن الجائحة مكنت من إعادة النظر في ثغرات هذه الأنظمة وإعادة تصميمها بما يتوافق مع مبادئ التمركز حول الحق الإنساني، والشمول والإحاطة بالمخاطر التي يجب أن تغطيها وتتوجه إليها خاصة فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي، ومراجعة مدى كفاية وكفاءة الاستحقاقات وتوافقها مع خط الكفاية المحلي، بالإضافة إلى مراجعة تسهيلات الوصول إلى هذه الأنظمة وتعزيز الخيارات المتاحة بين الخيارات الطوعية للانتساب إليها والخيارات الجبرية المؤسساتية. وإذا كانت قضية التمويل هي التحدي الأساس في نظر بعض الأنظمة أمام شمول الحماية الاجتماعية وتغطيتها فإن المعالجة التي تركز عليها الممارسات الفضلى هي في توسيع قاعدة المشمولين بالنظام، بالإضافة إلى التركيز على البرامج القائمة على الاشتراكات لتعظيم أصول التمويل بدلًا من التوسع في البرامج القائمة على الإعانات النقدية المباشرة، كما من الضرورة في ظل التوجه لتعزيز الضرائب أن يتم حكامة هذه الضرائب لتتوجه نسب منها لتمويل أنظمة الحماية الاجتماعية القائمة، عوضًا عن إعادة تصميم النظام الضريبي ذاته بما لا يولد مخاطر اجتماعية قد تدفع فئات كبيرة إلى ذات دائرة المخاطر الضاغطة على كفاءة منظومات الحماية الاجتماعية.

يشكل صدور المرسوم السلطاني رقم ٣٣ / ٢٠٢١ في شأن أنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية، والعمل الذي تؤسس له خطة التوزان المالي متوسطة المدى (2020 – 2040) فرصة سانحة لإجراء مراجعات موسعة مصحوبة بحوارات وطنية لتأطير نظام متكامل للحماية الاجتماعية، ولعلنا نشدد هنا على محورية بعض الاعتبارات في إرساء هذا النظام خصوصًا في ظل ما أفرزته جائحة كوفيد 19، فمن الجيد التفكير فيما يعرف بـ"الموازنات الاجتماعية" التي أصبحت دارجة في بعض الدول وتستهدف التركيز على خارطة الإنفاق الاجتماعي للدولة خلال عام كامل، فوضعها والنقاش حولها سواء عبر المؤسسات التشريعية أو مع الجهات ذات العلاقة من الممكن أن يوضح ثغرات وتحديات تمويل البرامج الاجتماعية، ويطرح مصادر تمويل بديلة، ويعيد ترتيب أولويات الإنفاق الاجتماعي. كما أنه من الممكن إضافة لاستثمارات صناديق التأمينات الاجتماعية والتقاعد توجيه نسب من استثمارات أموال الوقف والزكاة ونسب من عوائد استثمارات جهاز الاستثمار العماني خلال مرحلة معينة في دعم نظم الحماية الاجتماعية مع الحاجة إلى تأسيس الصندوق الوطني للمسؤولية الاجتماعية الذي من الممكن أن يساهم في حلحلة بعض إشكالات تمويل الحماية الاجتماعية. ومن ناحية توسيع نطاق التغطية فمن الجيد استخلاص الممارسات الفضلى التي ذهبت إليها بعض الدول وخاصة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا عبر التوسع في منح المرض، والتأمين الصحي، ومنح الأمومة والطفولة، والمنافع العائلية. فبحسب دراسة "Integrating Social Health Protection Systems: Lessons learned" في رواندا على سبيل المثال مكنت مبادرة الصحة السلوكية للأطفال (CBHI) من خفض معدلات وفيات الأطفال الرضع والأمهات وأثر بشكل إيجابي على صحة البالغين، وخفض إنفاق الفرد من الجيب على الصحة إلى حدود (3600) فرانك رواندي سنويًا. كما شرعت فيتنام في توسيع تغطية الضمان الاجتماعي لفئات ذوي الإعاقة وتحسين الاستحقاقات، فتراجع إنفاق ذوي الإعاقة بنسبة 84% أقل على الصحة التي كانت تستهلك الجزء الأكبر من المعونات النقدية الموجهة لهم.

إن مستقبل أنظمة الحماية الاجتماعية بعد كوفيد 19 في تقديرنا مرتبط بمدى القدرة على بناء نظام شامل لدورة الحياة منذ الطفولة وحتى الشيخوخة وقادر على إدراك والتنبؤ ورصد المخاطر الاجتماعية والسيناريوهات المرتبطة بكل فئة يستهدفها هذا النظام عبر مراحل دورة الحياة المختلفة، ومؤسس على نظام واضح لرصد البيانات الاجتماعية، وباحث عن مصادر تمويل مبتكرة ومستدامة (غير معرضة للظروف والمتغيرات المباشرة المؤثرة على الموازنات العمومية).