ما من دائرة عنف في القدس.. ولكنه قمع إسرائيلي

08 فبراير 2023
08 فبراير 2023

ترجمة أحمد شافعي -

تعمل الجرافات كل يوم تقريبا. في أحياء القدس الفلسطينية، والقدس مدينتي، والقوات الإسرائيلية تدمر منازل على نحو شبه يومي. ولقد كان انتزاع الملكية والتمييز واقعا قديما في القسم الشرقي من المدينة الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي العسكري منذ 56 عاما، أما في ظل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الجديدة، فإن القدس تشهد ذروة الهدم، إذ تحطم أكثر من ثلاثين مبنى في شهر يناير وحده.

تنزع أخبار منطقتنا في العواصم ووسائل الإعلام الغربية إلى أن تكون غارقة في الدم، والشعب الفلسطيني هو الذي يتعرض لبعض من أكثر الأيام عنفا وتدميرا وفتكا في الذاكرة الحديثة. كان عام 2022 هو الأكثر دموية منذ قرابة عقدين في الضفة الغربية المحتلة. ففي شهر يناير قتل 31 فلسطينيا آخر بنيران إسرائيلية. ويحوم اليأس والإحباط وقلة الحيلة علينا جميعا حومان غيمة داكنة. لكن الأرقام وحدها لا تعبر عن مدى هذه القسوة.

فليس من الملائم أو الكافي لإيضاح اختلال ميزان القوى بين فارض الاحتلال والخاضع للاحتلال أن تلجأ وسائل إعلام غير مطلعة أو منحازة أو لا تطرح الأسئلة إلى ذكر أعداد القتلى والعبارات المكرورة من قبيل دوائر العنف. فالعنف الذي نتعرض له نحن الفلسطينيين بصورة شبه يومية لا يأتي فقط من أسلحة الجيش الإسرائيلي لكنه أيضا عميق وبنيوي.

ما من «دوائر هدم بيوت» أو «تفجيرات متبادلة» ـ فالفلسطينيون لا يصادرون الممتلكات الإسرائيلية أو يعتقلون آلاف الإسرائيليين عبر محاكم عسكرية. وكل نهج يشير إلى تناظر في القوى ـ أو المسؤولية ـ هو نهج معيب تحليليا وأخلاقيا.

يمكن العثور على صورة مصغرة لهذا العنف البنيوي هنا تحديدا، في المدينة التي ولدت فيها، أي القدس. في الشهر الماضي قتل مسلح فلسطيني سبعة إسرائيليين في مستوطنة نيفي يكوف في القدس الشرقية المحتلة. تعهد على إثره وزير الأمن الوطني الإسرائيلي إيتامار بنجيفير بأن يكثف من هدم البيوت الفلسطينية المقامة بغير تصريح، قائلا إن تلك الخطوة رد على الهجوم.

تتعرض أغلب البيوت الفلسطينية للاستهداف لعدم استخراج أصحابها تصاريح: والحقيقة أن ثلث المباني الفلسطينية على الأقل في مدينتي بلا تصاريح إسرائيلية، بما يجعل مائة ألف من سكان القدس الشرقية المحتلة معرضين لخطر التشريد الجبري في أي لحظة.

والواقع أنه منذ أن بدأ الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في عام 1967، لم يجر تقريبا أي تخطيط عام بالمرة للأحياء الفلسطينية. وقد أقيمت خمسة وخمسون ألفا من البيوت للإسرائيليين اليهود في القسم الشرقي من المدينة، في حين أقيم ما يقل عن ستمائة بيت للفلسطينيين بدعم حكومي ما. فلم تؤد هذه السياسة فقط إلى تواضع إسكان الفلسطينيين، بل وإلى أنهم بقوا أقلية في المدينة.

برغم أن الفلسطينيين يمثلون أكثر من 37% من سكان القدس، فإن أقل من 8.5% من الأرض فقط هو المخصص لهم في المدينة لأغراض السكن (وحتى في هذه الأرض فإن إمكانية البناء محدودة). في ما بين عامي 1991 و2018، كان 16.5% من جميع تصاريح البناء الصادرة من بلدية القدس مخصصا للأحياء الفلسطينية في القسم الشرقي المحتل الذي ضمته إسرائيل بلا شرعية. أما ما يسمى بالبناء غير القانوني وغير المرخص مما يمارسه الفلسطينيون فهو رد على نقص الإسكان المزمن القائم على التمييز.

لقد أعلن بنجيفير ونائب عمدة القدس آريه كينج أخيرا عن قرب إزالة مبنى سكني في وادي قدوم بسلوان على أساس أنه أقيم على أرض مخصصة لـ «الرياضة والترفيه» لا للاستعمال السكني. وعند المضي في ذلك، سيكون هذا هدما ضخما يؤدي إلى تشريد أكثر من مائة مقيم. في السنوات العشر الماضية، تعرض 1508 من المباني الفلسطينية للهدم في القدس الشرقية، مما أدى إلى تشريد 2893 شخصا، كان نصفهم من القصَّر.

وقد وسم العنف واقع الضفة الغربية المحتلة أيضا. فلا يكاد يوجد مبنى فلسطيني حاصل على تصريح في ما يعرف بالمنطقة سي (التي تمثل 60% من مساحة الضفة الغربية). والسلطات الإسرائيلية تهدم للفلسطينيين باستمرار البيوت والطرق والصهاريج والألواح الشمسية وغيرها. وبينما تتوسع المستوطنات التي يعدها القانون الدولي غير شرعية، ينحصر الفلسطينيون في جيوب متناثرة.

ومع ازدياد أعداد الهدم والتشريد في القدس والضفة الغربية، تتعرض مجتمعات بأكملها للتهديد. لكن يجب أن نتذكر أن التكلفة هي الأكثر وضوحا على المستوى الفردي: إذ تفقد الأسرة الواحدة كل ما لديها في العالم. فتنهار الجدران ويبكي الأطفال ويتدافع الآباء وهم لا يعرفون ماذا يجب أن يفعلوا أو إلى أين يذهبون بعد ذلك. فهي كارثة، وهي مستمرة.

ليس العجز عن الحصول على (التصريح مستحيل النوال) هو الذريعة الوحيدة لهدم أملاك الفلسطينيين، فسلطات الاحتلال الإسرائيلي تحطم أيضا المنازل أو تغلقها على سبيل العقاب الجماعي المحظور بشدة في القانون الدولي. فأعمال التشريد الجبري لشعب محتل تمثل جريمة حرب. والقسوة مذهلة.

وأعمال الهدم والتشريد هذه جزء من العنف البنيوي الذي نواجهه نحن الفلسطينيين كل يوم. وقد تتبع هذه الحكومة الإسرائيلية مظاهر قاسية جديدة للاحتلال، لكن الأسس أرسيت على أيدي ائتلافات متتابعة منذ عام 1967 سواء من العمل أم من الليكود.

وهذا هو السبب في أنه ما من عزاء لنا نحن الفلسطينيين في حشود الإسرائيليين الذين يتظاهرون ضد الإصلاحات القضائية المقترحة، فعلى مدار عقود تمت مصادرة أراضينا وتشريد أهلنا، على أيدي ساسة إسرائيليين منتخبين ينتمون إلى شتى الأحزاب، ويجازون من شتى طبقات النظام القضائي. فالاحتلال والسياسات العرقية مفروضان علينا من قبل المشاركين في الائتلاف الحالي، ومن قبل كثيرين خارجه في الوقت الراهن.

هذا العنف هو واقعنا، ومواجهة هذا الواقع خطوة أولى لازمة في قتالنا من أجل الكرامة والعدالة. ولوم الضحية أو إنهاء الحوار سوف يطيلان أمد معاناتنا وحسب. فالأمر ليس دائرة عنف، وإنما نظام فصل عنصر أبارتدي، ولا بد من معاملة العالم الخارجي له باعتبار أنه كذلك.

جلال أبو خاطر صحفي مقدسي، حاصل على ماجستير في العلاقات الدولية والسياسة من جامعة دندي.

عن ذي جارديان البريطانية.