لا عودة إلى تضخُّم سنوات السبعينات

22 يونيو 2022
22 يونيو 2022

ترجمة: قاسم مكي

كان لدينا تقرير سيئ آخر عن التضخم في الأسبوع الماضي (تاريخ نشر المقال 14 يونيو). فمعدل التضخم خلال فترة الإثني عشر شهرا الماضية تجاوز 8%. هذا المستوى يستدعي إلى الذاكرة «التضخم العظيم» بالولايات المتحدة في أعوام الستينات والسبعينات من القرن الماضي. فبداية من عام 1966 حتى 1981 ارتفع مؤشر أسعار المستهلك في المتوسط بأكثر من 7% سنويا وبلغ ذروته عند معدل 13% عام 1980. شهدت هذه الفترة أيضا انكماشين كبيرين وانكماشين صغيرين وتدهورا بلغ حوالي الثلثين تقريبا في مؤشر داو جونز الصناعي بعد تعديله على أساس التضخم.

هل نحن نواجه خطر تكرار تلك التجربة؟ الإجابة المختصرة: من المؤكد تقريبا لا.

على الرغم من ارتفاع التضخم في الستينات والسبعينات إلى عدة «ذُرَىَ» واستمراره لفترة أطول كثيرا قياسا بما شاهدناه مؤخرا إلا أن هنالك حقا بعض أوجه الشبه بينه وبين ما نَمُرُّ به الآن.

فالتضخم الذي حدث قبل نصف قرن، مثله مثل تضخم اليوم، بدأ بعد فترة طويلة من انخفاضه بشكل عام. وفي كلا الحالين زاد حجم الطلب (على السلع والخدمات) بسبب الإنفاق الفدرالي الثقيل على الحرب في فيتنام وبرامج المجتمع العظيم في الستينات وعلى مواجهة كوفيد في 2020-2021. وفاقمت صدمات أسعار الطاقة والغذاء من مشكلة التضخم في أعوام السبعينات، تماما على نحو ما تفعل اليوم.

لكن هنالك اختلافات بالغة الأهمية كذلك. أولا، على الرغم من أن التضخم لم يكن مقبولا إلى حد بعيد من قِبَل الناس في أعوام الستينات والسبعينات، كما هي الحال الآن، إلا أن أي اتجاه من بنك الاحتياط الفدرالي وقتها لمحاربة التضخم برفع سعر الفائدة كان يُقابَل بمقاومة سياسية شديدة. فهو يمكن أيضا أن يبطئ الاقتصاد ويرفع معدل البطالة.

في محاولة لحماية الناس من التكاليف الاقتصادية لحرب تفتقر إلى التأييد الشعبي كثّف الرئيس الأمريكي ليندون جونسون ضغوطه على ويليام ماكيسني مارتن رئيس بنك الاحتياط الفدرالي للإبقاء على انخفاض معدلات الفائدة. وعد جونسون رئيسَ البنك بزيادة الضرائب لسداد نفقات الحرب وبناءً على ذلك امتنع ماكيسني عن رفع معدلات سعر الفائدة لبعض الوقت. لكن الضريبة الإضافية المؤقتة التي فرضها جونسون في عام 1968 فشلت في تهدئة نشاط الاقتصاد مما مكَّن التضخم من الحصول على موطئ قدم.

ريتشارد نيكسون الذي كان يتطلع إلى إعادة انتخابه في 1972 أوضح في جلاء لآرثر بيرنز الذي خلف مارتن ماكيسني على رئاسة بنك الاحتياط أنه لن يقبل بتباطؤ الاقتصاد قبل الانتخابات. ولم يتخذ بيرنز إجراءً مهما ضد التضخم.

حتى بعد استقالة نيكسون في عام 1974 استمر الكونجرس في الضغط على بيرنز والبنك لتجنب سياسات مكافحة التضخم التي قد تقود إلى تباطؤ الاقتصاد. مثلا هنالك قانون في عام 1978 حدد نسبة 3% هدفا لمعدل البطالة في أوساط من تبلغ أعمارهم 20 عاما فأكثر. وهذا أقل كثيرا من مستواها المستدام وغير التضخمي وقتها.

بالمقارنة، تحظى جهود جيروم باول الرئيس الحالي لبنك الاحتياط وزملائه لخفض التضخم بتأييد كبير من البيت الأبيض والكونجرس معا، على الأقل حتى الآن. نتيجة لذلك يتمتع بنك الاحتياط اليوم بالاستقلال الذي يحتاج إليه لاتخاذ قرارات السياسة النقدية التي ترتكز على البيانات الاقتصادية فقط وتخدم مصالح الاقتصاد في الأجل الطويل وليس على اعتبارات سياسية قصيرة الأجل.

إلى جانب اتساع نطاق استقلال البنك هنالك اختلاف رئيسي عن سنوات الستينات والسبعينات وهو التغيُّر اللافت في آراء البنك حول مصادر التضخم ومسؤوليته عن السيطرة على سرعة ارتفاع الأسعار.

تبنَّى بيرنز الذي تولى رئاسة بنك الاحتياط خلال معظم فترة تضخم السبعينات نظريةَ تضخمِ التكلفة. فقد كان يعتقد أن التضخم تسببت فيه أساسا الشركات الكبيرة ونقابات العاملين باستخدامها نفوذها في السوق لرفع الأسعار والأجور حتى في أوضاع تباطؤ الاقتصاد. اعتقد بيرنز أن البنك ليست لديه قدرة تذكر لتحييد هذه القوى. وساهم، كبديل لرفع سعر الفائدة، في إقناع نيكسون بوضع ضوابط على الأجور والأسعار في عام 1971. لكن هذه الضوابط فشلت فشلا ذريعا.

اكتسب التضخم زخما خلال ذلك العقد وانتهى فقط بعلاج الصدمة الذي طبّقه بنك الاحتياط برئاسة بول فولكر في أوائل الثمانينات وقاد إلى انكماش عميق.

لم يكن بيرنز مخطئا في الاعتقاد بأن عوامل خارج سيطرة بنك الاحتياط يمكن أن تسهم في التضخم. فقوى «جانب العرض» مهمة حقا اليوم. ليس فقط الزيادات في الأسعار العالمية للطاقة والغذاء التي سبق أن أشرنا إليها ولكن أيضا القيود المرتبطة بالجائحة كأعطال سلاسل التوريد العالمية. ولسوء الحظ لا يمكن للبنك أن يفعل شيئا يذكر بشأن مشاكل «جانب العرض» هذه.

مع ذلك يدرك واضعو السياسات النقدية اليوم أن بنك الاحتياط يمكنه المساعدة في خفض التضخم بإبطاء النمو في «الطلب» أثناء انتظارنا انفراج قيود «العرض» والذي سيحدث في نهاية المطاف. أيضا استنادا إلى دروس الماضي، يدرك واضعو السياسات أنهم بالقيام بما هو مطلوب للسيطرة على التضخم يمكنهم مساعدة الاقتصاد وسوق الوظائف على تجنب عدمِ استقرارٍ أشد خطورة في المستقبل.

باختصار، الدروس التي تعلمها بنك الاحتياط وقادة السياسة من «التضخم العظيم» في الولايات المتحدة تستبعد جدا تكرار تلك التجربة.

يدرك البنك أنه يجب عليه تولي الدور القيادي في السيطرة على التضخم وأنه يملك الأدوات والاستقلال السياسي الكافي للقيام بذلك.

اتّجه البنك بعد تأخير تسبب فيه تشخيص خاطئ لحال الاقتصاد عام 2021 إلى تشديد السياسة النقدية بإنهاء مشترياته من السندات في فترة الجائحة والإعلان عن خطط لتقليص موجوداته من الأوراق المالية ورفع أسعار الفائدة في الأجل القصير.

ويبدو على الأسواق أنها تدرك الكيفيةَ التي تغيّرت بها مقاربة بنك الاحتياط عن مقاربته في العهد السابق الذي تحدثت عنه. كما يبدو على الناس أنهم يدركون ذلك أيضا. وعلى الرغم من رفع البنك أسعار الفائدة مرتين فقط هذا العام (ودون شك سيأتي اجتماعه يوم 15 يونيو بزيادة جديدة) إلا أن الأوضاع المالية صارت أكثر تشددا بشكل ملحوظ. مثلا ارتفعت أسعار فائدة قروض الرهن العقاري بأكثر من 2% في العام الماضي مع توقع الأسواق استمرار واضعي السياسات في حملتهم ضد التضخم. (فعلا رفع بنك الاحتياط سعر الفائدة بنسبة 0.75% في اجتماعه المذكور يوم الأربعاء 15 يونيو- المترجم).

وفيما تكشف مؤشرات السوق ومسوحات المستهلكين عن توقع بقاء التضخم مرتفعا خلال العام القادم أو العامين القادمين إلا أنها في الغالب تشير إلى استمرار الثقة في أن البنك سيكون في الأجل الطويل قادرا على خفض التضخم إلى معدل يقترب من المعدل الذي يستهدفه وهو 2%.

هذه الثقة بدورها تجعل مهمة البنك أكثر يسرا وذلك بالحَدِّ من خطر السيكولوجية التضخمية (بتعبير بيرنز) على عموم الناس. ومنذ تغلُّب فولكر على التضخم في ثمانينات القرن الماضي صارت انفجارات التضخم تتلاشى بسرعة أكبر وبقدرٍ أقل من القيود النقدية مقارنة بالمرَّات السابقة.

لا يعني أي من هذا أن مهمة البنك ستكون سهلة. فدرجة تشديد السياسة النقدية التي سيتوجب على البنك المركزي بلوغها للسيطرة على تضخمنا المرتفع الحالي وعلى مخاطر التباطؤ أو الانكماش الاقتصادي المرتبطة به تعتمد على عدة عوامل. من بينها مدى السرعة التي تنحسر بها مشاكل جانب العرض (ارتفاع أسعار النفط وبطء سلاسل التوريد) ورد فعل الإنفاق الكلِّي على تشديد الأوضاع المالية التي «يهندسها» البنك وهل سيحافظ على صدقيته كمحارب للتضخم حتى إذا احتاج التضخم إلى وقت كي ينحسر. من بين هذه العوامل يعلمنا التاريخ أن العامل الأخير قد يكون الأكثر أهمية.

لن يديم التضخم نفسه بنفسه بحيث تقود الزيادات في الأسعار إلى زيادات في الأجور وهذه بدورها تقود إلى زيادات في الأسعار إذا اطمأن الناس إلى أن بنك الاحتياط سيتخذ الإجراءات الضرورية لخفضه بمرور الوقت.

استقلال البنك بقدر أكبر في تقرير سياسته النقدية واستعداده في تحمّل المسؤولية عن التضخم وسِجِلَّه في الإبقاء على انخفاض التضخم لما يقرب من أربعة عقود بعد «التضخم العظيم» كل هذا يجعل البنك اليوم أكثر صِدْقية في مواجهته قياسا بأعوام الستينات والسبعينات.

ستساعد صِدقية بنك الاحتياط الفدرالي على ضمان عدم تكرار التضخم العظيم وسيمنح باول (رئيس البنك) وزملاؤه أولوية قصوى للحفاظ على هذه الصدقية.

بن برنانكه رئيس بنك الاحتياط الفدرالي من 2006 إلى 2014 ومؤلف كتاب «السياسة النقدية في القرن الحادي والعشرين: بنك الاحتياط الفدرالي من التضخم العظيم إلى كوفيد-19».

ترجمة خاصة لـ ($) عن «نيويورك تايمز»