كينونة الذاكرة ومسؤولية الدفاع عن الهوية

14 يونيو 2021
14 يونيو 2021

منذ فجر البشرية بدأ الإنسان بتنظيم عاداته وأخلاقيّاته وسُبل مَعيشته التي باتت في ما بعد تُعبِّر عن إرثه التاريخيّ، وتُشكِّل الحاملَ لمضامين هويّته وخصوصيّته، والذي -أي ذلك الإرث- باتَ مع تناقُله من جيلٍ لآخر، يعبِّر عن تراثه، سواء ما استقر منه محفوظًا في المدوّنات المكتوبة أم ما تمّ الحفاظ عليه في الأنماط السلوكيّة أو المرويّات أو غير ذلك من الأساليب.

يُمكن القول إنّ الذاكرة التاريخيّة مُرافقة للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، بسعيه الدؤوب لتشكيل حضارته وحفْظ جوانب منها، في حلقات تاريخيّة مُتتابعة. ومن هنا، فإنّ جزءًا جليلًا من حقّ الإنسان في وجوده التاريخي، يشكِّل التراث وثيقته التي تحفظ ذلك الحقّ، وتورثه جيلًا بعد جيل.

إنّ لكلّ شعب تجربته الخاصّة والمستقلّة التي شكَّلت وتُشكِّل مَلامح هويّته الثقافيّة والحضاريّة، وبذلك فإنّ الحفاظ على الهويّة الوطنيّة -التاريخيّة لكلّ مُجتمع وحقّه في امتلاكه، يحفظ تلك الهويّة من الضياع، بدايةً من اللّغة، وصولًا إلى أبسط أشكال التعامُلات وحتّى المُقتنيات المنزليّة، وأنواع الطعام... من دون أن يعني ذلك انغلاق مُجتمع ما على ذاته.

يقول أمين معلوف في كِتابه «الهويّات القاتلة»: «كلٌّ منّا مؤتمَن على إرثَين: أحدهما عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعبه وجماعته الدينيّة، والآخر أفقي يأتيه من عصره ومُعاصريه».

يسعى الإنسان بشكلٍ أكبر إلى امتداد إرثه من عادات وتقاليد من ضمن جماعات خاصّة داخل الدولة الواحدة، على أن يقع الدَّور الأهمّ في المُحافظة على الهوية المُعاصرة على الدولة، بالاستناد إلى ما أنتجته من مخزون ثقاقي وحضاري يحمي مَعالمها التاريخية.

تتجلّى النواة الحقيقيّة لبناء الهويّة والذّات الوطنية بشكل أساس في ما يحفظه الإنسان من تاريخه الماضي ويُحافظ عليه في حاضره، وهذا ما يُمكن تلمّسه في عمليّة تكوين الهويّة الوطنيّة، حيث نجد على سبيل المثال أنّ هناك شخصيّات أسطوريّة ما زالت حاضرة في التاريخ المُعاصر لمُجتمعاتها، بل باتت تلك الشخصيّات نماذج إنسانيّة يُقتدى بها، ناهيك بكثير من أنماط الحياة، والمفردات التي تخترق الزمان، وتَعبر فيه بكلّ يُسر، لتُصبح جزءًا من ثقافة المُجتمع بأفراده، ألسنا في مصر، لا نزال نحتفل بشمّ النسيم، العيد الفرعوني، الذي يمثّل استمرار الحياة وانبعاثها؟ بل لا يزال الفلّاح الفلسطيني، وبحكم العلاقة مع مصر القديمة، يُسمّي نار فرنه «آتون» باستعارةٍ واضحة من اللّغة المصريّة القديمة. وهل يُمكن أن نقرأ الديانات التوحيديّة ككلّ، من دون المرور بأثر أخناتون فيها؟ هذه النماذج ما هي إلّا تجسيد للتاريخ في وعينا الحاضر، وتشكيل لهويّتنا المُعاصرة، بعيدًا من اختزال الهويّة بمعناها السياسي الضيق، المُثقل بالأيديولوجيا.

وليس بعيدًا عن موضوع التراث في ارتباطه بالزمان التاريخي، في مراحله الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، العلاقة بين التراث، بما هو مكوِّن أساسي للأصالة والعصريّة بكلّ حمولتها. سواء ما هو نِتاج التطوّر الطبيعي للمُجتمع أو ما هو وافد من خارج السياق التاريخي-الجغرافي للمُجتمع. هنا، لا يُمكن حسْم الموضوع بمجرّد اتّخاذ مَوقف من أحد طرفَي العلاقة، فليست الأصالة في تضادّ مع العصريّة أو الحداثة. كما أنّ المَسار التوفيقي للعلاقة يأخذ في الغالب الأعمّ صيغةً انتقائيّة -أي تنتقي من طرفَي العلاقة ما يروق لها- أو تختزل الأصالة التراثيّة، أو مقابلها العصري في قيَم معيّنة يتمّ التوفيق بينها.

إنّ العلاقة التي نميل إليها، إنّما تتّخذ المنحى الجدلي، الذي يؤمِن بوحدة مسار التاريخ، وصيرورته، وأن ما يحافظ عليه الإنسان من ماضيه يشكِّل جزءًا أصيلًا من تلك الصيرورة، وبعبارة أخرى، من حاضره. وبهذا المعنى، فإنّ التراث الأصيل ما هو إلّا نتاج خيارات عقلانيّة هي في مُواجَهة مركّبة مع عناصر من التراث تُعتبر مُنتهية الصلاحيّة التاريخيّة، وأخرى وافِدة، لا تنسجم في غاياتها مع ضرورات التحديث والعصرنة التي تفرضها السياقات المحليّة.

يُضاف إلى تلك الإشكاليّة عنصرٌ في غاية التشابُك والتعقيد يتعلّق بالنمْذجة أو بمَرْكَزَة الحضارة والتراث الإنساني حول الغرب ومُنجزه التاريخي الحضاري. وهنا، ومن دون الخوض في التفاصيل، فإنّ تلك النزعة أفضت في كثيرٍ من الأحيان إلى مُحاولة مُجاراة الغرب، باقتلاع الجذور «الأصاليّة» في المجتمع، وفي أحيان أخرى مارسَ الغرب، بفعل هَيمنته الاستعماريّة، ومن ثمّ الثقافيّة والإعلاميّة، مُحاولاتٍ لطمْس «تراثات» الشعوب، في مسعى لقطعها عن تاريخها وإحكام السيطرة عليها، ناهيك بسرقة جزء من تلك التراثات، والأخطر هو مُحاولة التقليل من قيمتها أو نسبها حتّى لغير الشعوب التي أنتجتها. وهنا لا يُمكن فصل ذلك كلّه عن أنّ الصراع الحضاري يأخذ مَسارات وجبهات متعدّدة، ينحسر فيها العنفي في كثير من الأحيان، لمصلحة الجبهة الثقافيّة الحضاريّة التي تشكِّل مَوقعًا صراعيًا فريدًا بامتياز.

ولعلّنا مضطّرّون هنا بحُكم دوافع معرفيّة ووطنيّة وقوميّة، لولوج الحالة الفلسطينيّة التي تشهد أشدّ المُحاولات وأقواها لضرْب الهويّة الوطنيّة والتاريخيّة باستمرار من طرف الاحتلال «الإسرائيلي»، الذي يسعى بشكلٍ مُستمرّ في اتّجاهَين: الأوّل، طمْس الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، والثاني إبراز التاريخ اليهودي، حتّى عبر نسب جزء كبير من التاريخ الفلسطيني القديم للتاريخ اليهودي، وذلك في إطار مسعى لإحكام السيطرة على الفلسطينيّين، أرضًا وسكّانًا وتاريخًا وحتّى مصيرًا ومُستقبلًا.

ولعلّنا نستطيع تتبُّع ذلك، بدءًا من تحليل الرواية الصهيونيّة حول أرض الميعاد، وتزييف جزء كبير من الحقائق التاريخيّة، بما يخدم الادّعاء الصهيوني بالحقّ التاريخي- الإلهي في فلسطين، وكيف سوِّقت تلك الرواية في العالَم الغربي، لتشكِّل أساسًا لدعْم إسرائيل التي أُقيمت على أنقاض أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينيّة مُحيت عن الوجود، ليولَد الكيان الصهيوني في عام 1948، حتّى أنّ تلك الرواية لم تكتفِ بفلسطين وحدها أرضًا للميعاد، بل أُعيد تفسير الكِتاب المقدَّس ليخدم العدوان الإسرائيلي على كلّ الدول العربيّة، حيث يبدو التفسير الصهيوني وكأنّه إعادة لتاريخ قديم، سيكون فيه دَورُ الإسرائيلي دَورًا انتقاميًّا لمظلمة تاريخيّة وقعت عليه في المنطقة، والأهمّ، ربْط ذلك بالدَّور الرسالي لإسرائيل، وكأنّها النموذج الديمقراطي الذي يُصدِّره الغرب للشرق.

بعيدًا من التفاصيل، فإنّ المسمّيات الفلسطينيّة التاريخيّة، جُيِّرت لأسماء المُستوطنات والتراث اليدوي، كالمطرّزات، تتمّ سرقته وتقديمه للعالَم على أنّه جزء من التاريخ اليهودي القديم، وصولًا إلى القضيّة الأكثر حساسيّة والتي تتعلّق بالزعم بأنّ الهيكل موجود تحت الحرم القدسيّ الشريف.

إن حديثنا هنا، عن الطمْس والسرقة التراثيّة، إنّما هو استحضار للمعنى المُقابل، وهو التراث كمشكِّل للهويّة الوطنيّة، وهو ما يؤكِّد ما ذهبنا إليه منذ استهلالنا. لذا نختم هنا بالقول إنّ الهويّة القوميّة الجامِعة، والتراث القومي الجامِع، الذي ترفده مكوّنات عدّة، بدءًا من الحضارات القديمة، مرورًا بالحضارة العربيّة الإسلاميّة، وصولًا إلى لحظتنا الرّاهنة، يتعرّض لأكبر مُحاولات طمْس، وهذه المرّة بأيدي الإرهاب الذي يكتسح المنطقة، مُحاولًا أن يفرض الظلاميّة عليها، مُمتشقًا الشعارات الدينيّة، بما يجعلنا أمام مسؤوليّة الدفاع عن تراثنا وحضارتنا وهويّتنا، بل ووجودنا، أمام الإرهاب والتبعيّة على حدّ سواء.

باحث إعلامي من مصر

ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي