في وعي جذور الاختلاف بين البشر

22 سبتمبر 2021
22 سبتمبر 2021

محمد جميل أحمد

يحتاج الإنسان بالضرورة إلى سياق يستطيع من خلاله تأطير رؤيته ومنظوره للأشياء والأفكار والأشخاص، وهذه الحاجة تردنا إلى حقيقة ينتفي معها التجريد، فليس هناك إنسان مجرد يصلح للقياس عليه، بل هناك إنسان تؤطره السياقات بحسب طبيعة التكوينات والمرجعيات التي أسست ذاكرته ومشاعره وأحاسيسه عبر نسيج محكم وبحيث لا يمكن تفسير سلوك الفرد وردود فعله إلا بقراءة في التشكلات التي نشأ فيها.

ومن هنا كانت العادات والعقائد والأعراف تدخل في دائرة ما لا يمكن تعريفه ضمن دائرة الحدود -كما يقول المناطقة- فعقيدة الإنسان التي نشأ فيها وبنى عليها تصوراته التي تشكل منظوره ورؤيته للحياة، عقيدة تتشكل في العادة عبر خزين معقد وعميق وراسخ من تراكمات: صور ومواقف وانطباعات وسلوكيات وتجارب في أطوار مختلفة من حياته، لا سيما أزمنة الطفولة الأولى، وبالتالي سيكون من الخرق والتخلف أن يحاول شخص ما سب عقيدة شخص آخر لمجرد أنه مختلف عنه فأي عقيدة بالنسبة لصاحبها بمثابة اليقين الذي يبرر قوة المعنى لجدوى حياته لا سيما فيما يتصل بالعقائد من قدسية وتحريم.

ولذلك نجد في القرآن الكريم الآية التي تقول: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) فالسب الذي يتسبب في اهتزاز عقائد الناس التي يقدسونها سيجلب رد فعل لا يخلو من السب بالضرورة.

احترام عقائد الآخرين، مهما كانت غير منطقية أو خرافية، لا ينبع بالضرورة من هوية تلك العقائد، بل ينبع من ضرورة احترام كرامة إنسانية الإنسان الذي يعتقدها واحترام التاريخ والتراكمات والتجارب والمشاعر في الرصيد الذي يختزنه ذلك الشخص لعقيدته.

لذلك، ولأن قوة العقائد والعادات والأعراف في نفوس الناس بذلك الرسوخ المتين والمتطاول بدت كما لو أنها لا تحتاج إلى تعريف، وإنما فقط تحتاج إلى احترام الفرد الذي يؤمن بها.

ولهذا، حتى في بعض الأديان التوحيدية كالإسلام تجد العلماء الراسخين في المعرفة يتفقون على قواعد يتم بموجبها احترام عقائد فرق المسلمين مهما كان اختلافها، وذلك بمنع التبشير بتفصيلات العقائد المختلفة التي تعتقدها بعض فرق المسلمين في البيئات المجتمعية التي يكون غالبية أفرادها من فرقة تعتقد في فروع عقدية مختلفة عن بعض فرق المسلمين في تفصيلات التصور العقدي.

ولأن لا أحد على التعيين يملك أن يقول: إن تأويلاته وأفكاره هي الحق المطلق لأنه (من حيث كونه إنسانًا يعتريه النقص والهوى والضعف) يتأثر بعوامل نقصانه تلك وبالتالي إن الذي يجعله في ذلك الطور من العوارض الطارئة هو هوية عامة في جميع بني البشر، ولذلك، وحدها العقيدة الأيديولوجية هي التي تجعل شخصًا ما متجاوزًا في ادِّعاء احتكار الحقيقة، الأمر الذي يدفع به إلى مطابقة التهيؤات والظنون بمعيار «الحقيقة» التي يعتبرها مطلقةً من منظور عقيدته الخاصة فقط.

ومن هناك ينشأ الإرهاب والتطرف بخطورة تتجاوز أي جرائم أخرى للعنف، لأن التأويلات الطهورية لا تعرف الندم في نفوس من يرتكبونها من الإرهابيين فيما هم يعتقدون صوابها المطلق.

لقد أصبح عالمنا اليوم أكثر انفتاحًا في حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الاختلاف من أي وقت مضى، وهو انفتاح يمكننا أن نتعرف فيه على الكثير من قيم الإسلام الكونية التي لو نحّينا عنا منظور خطاب الهوية الأيديولوجي الذي عممته جماعات الإسلام السياسي لأصبحنا قادرين على رؤية تلك القيم الكونية للإسلام بوصفها جزءًا من كثير من مواد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان مثلًا.

إن في الكثير من هوية الحريات في عالمنا المعاصر ما يتيح لنا واقعًا أفضل، ليس فقط في الحريات المتصلة بالاعتقاد والتعبير، بل كذلك بحرية التنقل والحركة والتحول الذي تضمن به قوانين حقوق الإنسان العالمية في أن يكون المسلم جزءًا من أي مجتمع عالمي يريد أن يعيش فيه دون أي ضغوط وإكراهات.

إن احترام الاختلاف في العقائد المتصل في جوهره باحترام كرامة الإنسان وضميره سواء أكان بين فرق المسلمين الذين يشملهم مصطلح «أهل القبلة» أو بين عقائد مجتمعات أخرى ذات أديان توحيدية أم وضعية، هو درس قرآني عميق في جدوى الاختلاف بوصفه جزءًا من هوية الحياة الإنسانية التي علينا أن نعيشها دون حمولات ضغط أيديولوجي يشوش علينا وعي العالم بحيث نتخيل علاقتنا مع العالم، في ظل هكذا وعي، علاقةَ صراع أبدي، كما تريد لنا ذلك جماعات الإسلام السياسي.