في عتبات الحديث عن التغير الاجتماعي في المجتمع العُماني

03 مايو 2021
03 مايو 2021

مبارك بن خميس الحمداني

لا تُعنى هذه المقالة بمحاولة تقديم أطر نظرية مفصلة للتغير الاجتماعي أو الوقوف على مظاهره وتمظهراته في سياق المجتمع العُماني، بقدر ما تبتغي الوقوف على بعض العتبات في سياق القبض على عملية التغير الاجتماعي، وفهمها، وتوظيف هذا الفهم في مراكمة المعرفة الاجتماعية «العلمية» من ناحية، والإسهام في رسم السياسات الاجتماعية القائمة على الأدلة من ناحية أخرى.

إذن تلوح في الأفق استدعاءات أساسية للحديث عن عتبات التغير الاجتماعي في عُمان -على الأقل خلال السنوات العشر الفائتة- باعتبار أننا أمام مجتمع يتبدل في أنساقه وهياكله، بقدر التبدل الطارئ على منظومة القيم التي يتأسس عليها وشبكات العلاقات الاجتماعية التي ينخرط فيها أفراده، ومجموع التصورات والمعاني التي توجدها الحياة الاجتماعية بالنسبة للأفراد، وفي المقابل فإن هذا التبدل لا يحظى بالقدر ذاته من عملية الرصد والقبض على معالمه أو عوامله، مما يفضي في سياق متقدم إلى أن تكون السياسات الاجتماعية مبنية على معارف (منقوصة/ مشوهة)، ونقصد بها هنا المعارف التي تتبنى (التكميم) وتستند إلى (العينات) وتراهن على المعطى الإحصائي كمدخل رئيس للفهم دونما محاولة للفهم والتفسير في ضوء معطيات التطور الطبيعي للمجتمع من ناحية، وفي ضوء اشتباك العوامل الدافعة للتغير الاجتماعي من ناحية أخرى، وكذلك الفواعل القصدية (السياسية والاقتصادية والثقافية) المحمولة في شاكلة سياسات عامة تفضي إلى هذا التغير وتنتجه بمرور السنوات.

يُعرف عالم الاجتماع إيفرت روجرز التغير الاجتماعي كونه: «العملية التي يحدث من خلالها تغير وتبديل البنيان والوظيفة الاجتماعية للنظم الاجتماعية» (الطنوبي، 1996، ص 52). ورغم أن حقل السوسيولوجيا يحفل بالكثير من الرؤى المتقاطعة والمتكاملة في سياق تعريف التغير الاجتماعي، إلا أن تعريف روجرز يقودنا إلى أبعاد مهمة، تتلخص في: كيف نطرح الأسئلة الدقيقة إزاء عمليات التغير الاجتماعي، وهذا في تقديري الخيط الذي يفصل الممارسة المعرفية والبحثية في عُمان اليوم من إمكان القبض على التحولات والتغيرات التي تطرأ على المجتمع وتشخيصها بدقة، وتحويل معرفة التشخيص هذه إلى مادة للتداول الاجتماعي والسياسي، وهنا أقصد مادة للنقاش العام، وأدلة تبنى عليها السياسات العامة، وتنبه المؤسسات إلى التحولات التي تتطلب التدخل السياسي عبر الخطط وبرامج الإصلاح والاستراتيجيات العامة، ومن واقع احتكاك طويل بحقل المعرفة السيوسيولوجية (الاجتماعية) المنتجة فيما يخص التغير الاجتماعي فإن ثلاث ملاحظات بارزة يمكن أن نسوقها في تحليل المشهد، هي على النحو الآتي:

- غالب الإنتاج البحثي والكتابة السوسيولوجية عمومًا التي تتقصى التغير الاجتماعي تركز بالدرجة الأولى على الأفراد (كعوامل، ونتاج) للتغير الاجتماعي وتهمل دور النظم والأبنية الاجتماعية وتغير وظائفها وتبدل خطاطة القيم التي تستند إليها، وتبدل محوريتها في حياة المجتمع عمومًا، وبالتالي فإن المعرفة المنتجة تغدو معرفة مجتزئة تأخذ الطابع الظاهري لشكل التغير الاجتماعي ولا تقدم فهمًا دقيقًا لعوامله.

- الحديث عن التغير الاجتماعي في غالبه حديث (عمومي) تتصدى له وسائل الإعلام في مساحات محصورة وتغذي محتواها في الغالب إما على نقاشات عامة (غير محددة القضايا) وإما على استخلاصات لبحوث ودراسات أكاديمية آنية (دون الإمساك بخط التراكم المعرفي حول القضية أو الظاهرة المدروسة).

وهذا قد يعود في تقديرنا إلى غياب مراكز البحث ووحدات التفكير التي نفترض أنها تؤدي دورًا في مراقبة المجتمع علميًا ومراكمة معرفة نظرية وتطبيقية حول أبعاد التغير الاجتماعي فيه وبشكل دوري، يمكن المجتمع في عمومه، وصانع السياسة العامة من فهم الاستخلاصات في تطورها التاريخي، وفهم المدخلات والعوامل التي أدت إليها، والمرجعيات القيمية والوسائطية التي أسهمت فيها.

- أما البعد الثالث فهو متصل بغياب ما يعرف بـ«عبور التخصصات» في تأصيل وتفسير وفهم التغير الاجتماعي وهو كما يعرفه Newell and Klein كونه «عملية الإجابة عن سؤال، أو حل مشكلة، أو معالجة قضية على درجة من الاتساع والتعقيد، بحيث لا يمكن دراستها من خلال تخصص واحد» (Newell and Klein،1997،393). ولكي نبسط المسألة أكثر فقضية مثلًا مثل قضية تزايد معدلات السمنة في مجتمع ما، لا يمكن تفسيرها وفقًا لاعتبارات صحية (من واقع علوم الصحة والطب) وحدها، دون دخول التفسير الاجتماعي، وربما التفسير الاقتصادي اللذين قد يقودان إلى التكشف على أسباب مرتبطة بمستويات الدخل وعلاقاتها بالمسألة، أو التعرض على سبيل المثال إلى وسائط إعلانية مكثفة وعلاقتها بالتأثير على الوعي العام، أو طبيعة تصميم الإطار المديني الذي يقطنه الفرد ومدى وجود محفزات لممارسة الرياضة، أو عوامل مرتبطة بثقافة المناسبات الاجتماعية وعلاقتها بالظاهرة ومن هنا فإن الوصول إلى أسباب تفصيلية تعين على الفهم والتسيير والتعامل اقتضى عبورًا لعدة تخصصات وصولًا إلى الإجابة المتطلبة.

وهذا ما أعتقد بندرته في سياق حقل الممارسة السوسيولوجية في البحث الاجتماعي في عُمان، حيث ما زالت مقاربات التغير الاجتماعي والقضايا المنظورة والمبحوثة تستند إلى مقاربات أحادية، تراهن على الجانب الثقافي بالدرجة الأولى، ولا تأخذ الإطار الكلياني في تعدد العوامل الدافعة لهذا التغير سواء عبر بروز ظاهرة أو مشكلة، أو تبدل نسق، أو غياب ممارسة وسلوك وغيرها من أشكال التغير وما يندرج تحت مفهومه.

وقد يتبادر للقارئ تساؤل: ما الغاية من تشخيص كل ذلك؟ والجواب ببساطة لكي نحسن القبض على مسار حياتنا الاجتماعية عبر صنع السياسات العامة وتدبير الشأن العام، إن ثمة أسئلة محورية غائبة في سياق تقصي التغير الاجتماعي إذا ما عدنا إلى تعريف روجرز حوله منها على سبيل المثال: ما الذي تغير في أدوار مؤسسات التربية وطرأ على وظيفتها في سياق النسق الاجتماعي؟ وما الذي تغير على دور مؤسسات التنشئة الدينية والوظيفة التي تؤديها في الحياة العامة؟ وكيف تغيرت أحوال الأسرة نوعيًا وما الذي طرأ عليها من تحولات على مستوى أنماط التفكير والتدبير لمعاشها الاجتماعي؟ وهل هناك تحول مس دور وسائل الإعلام المختلفة في أدائها لوظيفة بناء الوعي العام (بالمفهوم الدقيق والعلمي لبناء الوعي)؟. ومتوالية لا تنتهي من الأسئلة التي ظل البحث الاجتماعي يجاورها إلى قياس التغيرات من واقع واتجاهات الأفراد أنفسهم، دون الولوج إلى تغيرات هذه النظم والتبدلات الطارئة عليها.

إن طرح أسئلة موسعة على واقع النظم الاجتماعية ووظيفتها يمكننا كذلك من الإمساك بعصب إدارة المخاطر الاجتماعية، فلقد أثارت جائحة «كوفيد-19» ومنظومة الإدارة العامة للأزمة أسئلة حول مداخل بناء الوعي العام والتأثير فيه، فماذا لو كان لدينا أدب تاريخي من الأبحاث الاجتماعية الدورية حول مسائل الوعي والتغير الاجتماعي والتحولات الطارئة على مداخل بناء الوعي العام، ففي تقديرنا كان ذلك من شأنه أن يسهل الكثير في سياق إدارة الأزمة.

ما يمكننا تلخيصه ختامًا هو أن الحاجة إلى مراكمة معرفية علمية اجتماعية حول الواقع الاجتماعي وتغيراته لم تعد خيارًا أو ممارسة أكاديمية محضة. بل أصبح مطلبًا ملحًا ينبغي أن تنشط فيه مؤسسات عدة إذا ما أردنا ضبط منظومة صنع السياسات العامة، فالسياسات العامة التي تتأسس على مقاربات ومؤشرات لحظية (آنية) دون خط علمي ومنهجي واصل مع التغيرات التي طرأت ومحاولة فهمها وتفسيرها في ضوء عدة اختصاصات ومقاربات فإنها تنتج واقعًا مأزومًا، كما تنتج الفجوات في الاستهداف، وهذه إحدى معضلات السياسة الاجتماعية في عُمان خلال السنوات الفائتة.

وفي تقديرنا فإن التعاطي مع المسألة يجب أن يكون بتعزيز أبنية البحث القائمة وربطها باستراتيجيات محددة لأجندتها البحثية، ومحاولة الخروج من التكرار والتقليدية في الطرح والتناول للقضايا الاجتماعية، إضافة إلى رفع سقف الحريات البحثية والأكاديمية للولوج إلى قضايا التغير الاجتماعي وأسئلته الشائكة بعدة متجددة وعتاد مستنير على المستويين المنهجي والبحثي، كما يجب أن تبتني المؤسسات المعنية بالقضية الاجتماعية في عمومها برامج مستنيرة للبحث والرصد الاجتماعي وفق استراتيجيات (متوسطة - طويلة) المدى لأغراض رسم السياسات واتخاذ القرارات، لا أن ينشط حراكها فقط وفق مقتضى الحاجة اللحظية أو عند تبلور المشكلة المؤسسية والاجتماعية.

إن الأزمة في تقديرنا هي أزمة فهم قبل أن تكون أزمة سياسات، وأزمة الفهم هذه عائدة إلى النهج والأدوات والممارسات التي يتوجب في تقديرنا أن تنفتح أكثر على التجارب القرينة وآفاق التجدد في الممارسة وفضلى الأدبيات في التطبيق والتنفيذ.