في حرج الهويات اللغوية الراطنة!

23 يونيو 2021
23 يونيو 2021

في البلاد التي تتعدد فيها الهويات اللغوية الطرفية، وتتغلب فيها لغةٌ واحدة، أيا كانت الدواعي والأسباب التاريخية التي تغلبت عبرها هذه اللغة، لا يخلو في مثل تلك البلاد، تعبيرات أوتوقراطية للغة الغالبة تتحول مع مرور الزمن إلى امتياز للجماعة التي تنطق تلك اللغة كلغة أم، ثم يتطور ذلك الامتياز إلى معيار مفاضلة قد ينعكس بطريقة شعبوية نابذة، أو مستهجنة لأي اعتداد لغوي آخر لجماعة غير تلك الجماعة.

وفيما يمكن التسليم بالشروط والقوانين الإنسانية والمعرفية التي تجعل من لغة ما متجاوزة للجماعة العرقية التي تنطق بها، في تفسير غلبة تلك اللغة لتصبح بتلك القوانين لغة غالبة في مجتمع متعدد اللغات مثلًا، إلا أنه، ولا سيما في ظل شروط التخلف، لا يغرب أن تكون الجماعة اللغوية، التي تنطق باللغة الغالبة كلغة أم، في ظل هكذا شروط، جماعة جاعلة من معيار لغتها داخلًا في معايير أخرى لا علاقة لها في الأصل بالهوية المتساوية للغات كأدوات تواصل، وإنما تنحو إلى جعلها كمعايير للتصنيف الاجتماعي، تتوسل من شروط إتقان تلك اللغة الغالبة إتقانًا محكمًا شرطًا للاندماج الطبيعي في محيط الجماعة اللغوية، إلى درجة قد تكون معها تلك الشروط المتحكمة، كما لو أنها شروط تمييزية وعنصرية! ولما كان من عادة الطبع البشري، أن ينشأ الإنسان لغويًا وفق الهوية اللغوية التي نطق بها أول مرة، أي لغة الأم، فإن قدرته على الملاءمة والتوافق مع لغة أخرى سائدة من غير لغته الأم، ستكون بالضرورة متأثرة في النطق بتعبيرات لغته الأم.

من هنا، سنجد أن أي محاولة للتلاؤم مع لغة غالبة من طرف إنسان تعيَّن عليه أن يتحدث بها كلغة ثانية تحت ضغوط اجتماعية عامة تختبر إتقانه لها بمقاييس أوتوقراطية أو تهكمية من قبل الجماعة اللغوية الغالبة، سنجد أن ذلك الوضع تحديدًا هو ما يتسبب فيما يمكن أن نطلق عليه: (حرج الهويات المحلية الراطنة).

وبالرغم من إمكانية تحمل ضغوط ذلك الحرج إذا كانت اللغة الغالبة لغة دين مثلًا، كاللغة العربية، بالنسبة للناطقين بالعربية من دون أن يكونوا عربًا بالمعنى العرقي (وهم بالمناسبة غالبية سكان العالم العربي)، لأن حميمية اللغة العربية هنا ستكون جزءًا من الوجدان الديني حتى للفرد غير الناطق بالعربية، لكن عادة ما تنشأ إشكالات تتعلق بجوانب الغلبة الاجتماعية للجماعة التي تنطق باللغة الغالبة كلغة أم، ومن ثم ينشأ على هامش ذلك، جدل قد لا تكون له علاقة أصلًا بمشروعية الشروط الإنسانية والمعرفية لغلبة اللغات عبر التاريخ، ولكنه جدل يقيم في الحساسيات التي تنشأ من أساليب التفاخر الشعبوية للجماعة اللغوية الغالبة على الجماعات الأخرى (فيما قد تكون هذه الجماعة اللغوية ذاتها خاضعة لشروط تخلف لا تعكس فهما موضوعيًا أو معرفيًا لعلاقتها بلغتها) ومن ثم تنشأ ممارسات كثيرة من سوء تفاهم تاريخي محتمل بين الطرفين (أي طرف الجماعة الناطقة باللغة الغالبة لغة أم، وبين الجماعات الأخرى التي تعين عليها النطق باللغة الغالبة كلغة ثانية).

فإذا ما أخذنا مثلًا ظلال دلالة سالبة في استخدامات تقترن بوصف اللغات غير العربية بأنها «رطانة»، أي أنها غير مفهومة بالنسبة للذي ينطق العربية، لكن عادة ما يكون سياق التوصيف سياق انتقاصي، ووصف الذي ينطق بلغة أخرى غير العربية في السودان مثلاً بأنه «رطاني» (والسودان بلد راطن في جهاته الأربع) سنجد أن هذا التعبير بذاته قد يكون كافيًا لضخ حرج سلبي في نفوس الذين يتحدثون لغة أخرى غير العربية. لكننا سنجد أيضًا أن هذا وحده قد لا يفسر سبب ذلك الحرج، إذا ما عرفنا مثلًا أن الجماعة اللغوية الغالبة هي جماعة تسلطت بلهجة عربية معينة في الفضاء العام (لهجة سكان مدينة الخرطوم) وأن ذلك الحرج سيلحق آخرين ناطقين بالعربية ذاتها لكن بلهجة أخرى، كلهجة غرب السودان مثلًا! وهكذا، سنجد أن سوء التفاهم التاريخي المحتمل لهوية العربية في السودان (وهو إشكال لا علاقة له بأصل الشروط الإنسانية والمعرفية لغلبة اللغة العربية في السودان) سيصبح في أجندة كثير من المثقفين السودانيين بمثابة أدلاجة لإعادة النظر في اللغة العربية، أي سوء تفاهم غير محتمل!