فلسطين.. دروس من التاريخ

16 مايو 2021
16 مايو 2021

خميس بن راشد العدوي -

فلسطين.. قضية العالم، تحكي للبشرية ما كان يمارسه المستعمِرون في الشعوب والمناطق المستعمَرة، وتجسد كذلك نضال الشعوب وقدرتها على تقرير مصيرها. فلسطين.. ليست قضية عادية يمكن أن تحل في ردهات السياسة، وإنما هي الفيصل بين مَن ينظر إليها بأنها شأن سياسي متغيّر؛ وبين من يراها حقاً ومبدأَ لابد من تحقيقه، فإما أن تكون مع المتغيرات السياسية؛ فتجد نفسك كل يوم في وادٍ؛ تبرر وجودك فيه، وإما أن تكون مع المبدأ، تعزز قيمة الإنسانية من خلاله.

أكتب هذا المقال.. والحرب مستعرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مدركاً ما يجيش في نفوسنا نحن المسلمين من عواطف تجاه إخواننا الفلسطينيين، ومع عدم إمكان أن يتخلص الإنسان من عاطفته؛ وهو يرى الظلم يطال المستضعفين كل يوم، وعوائل تطرد من بيوتها التي سكنتها منذ أجدادها، من قِبَل محتلين لا يصل عمر دولتهم المفروضة على أرض فلسطين ثمانين عاماً، ويرى هؤلاء القادمين من الآفاق؛ مطمئنين في هذه البيوت تحميهم جيوش مدججة بأحدث ما توصلت إليه التقنية الذكية من سلاح، ويرى كذلك أطفالاً يُنتزَعون من أيدي والديهم ليزج بهم في السجون، وأطفالاً يتيتمون بفقد آبائهم تحت رصاص المحتل، وأطفالاً تنتهك براءتهم بإهانة أمهاتهم عند كل نقطة تفتيش.

ومع سلب الحقوق وهدم البيوت وقتل البشر كل يوم؛ نسمع على منبر النظام العالمي أسوأ «سياسة مكيافلية» عرفها البشر تطلب باسم «السلام» من الضحية أن يرضخ لسكين الجاني، وأن يستسلم المظلوم لحكم الظالم، فهل نلام بعد ذلك على عواطفنا؟ عواطف لم تهطل من سماء الخيال، وإنما نبتت من أرض الواقع، عواطف اعتصر دموعها الأسى على ما يجري في أرض فلسطين. هذا ما يشحذ عاطفتنا؛ تجاه هذه الأرض الصامدة التي لم تفقد الأمل من عودتها لأصحابها، وتجاه أطفال يفتحون أعينهم أول ما يفتحونها على غازات قنابل مسيلة للدموع؛ فلا يغمضونها لكي يبصروا يوم النصر الآتي، وتجاه نساء مجيدات تقدم فلذات أكبادها قرابين التحرير المرتقب الذي لا يغرب عن أعينهن، وتجاه رجال يُطوِّعون الحديد الصلب بصبرهم الذي لا ينفد؛ لكي يشكلوا منه سلاحاً لهزيمة ترسانة القتل التي تنتجها الرأسمالية المتوحشة. لكل هذا نعتصر حزناً، ونجيش عاطفةً، ونكتب تأييداً لأولئك الذين أقل ما يستوجب علينا نحوهم النصرة بالكلمة.

ومع كل هذا.. أضع العاطفة جانباً، لأستلهم من التاريخ دروساً، ليعتبر بها الظالم إن لم تأخذه العزة بالإثم، ويبصرها النظام العالمي إن كان تهمه حقائق التاريخ وقيم الأخلاق، ويدركها اليهود إن أرادوا لأجيالهم القادمة أن تعيش بسلام في الأرض، فلا تزدريهم الأمم بسبب غباء متغطرس يمارسه الصهاينة باسمهم، وأما الفلسطينيون فقد أثبتوا أنهم ممن يكتبون دروس التأريخ؛ من هذه الدروس:

الأول: أن أي استعمار مآله إلى زوال وإن طالت أيامه، وأن لأي احتلال نهاية وإن قويت شوكته، هذا قانون عام، فأين الاحتلال البريطاني الذي لم تكن الشمس تغرب عن سطوة نفوذه وهدير مدافعه؟ وأين الاستعمار الفرنسي الذي التهم الجزائر فقطّعت أحشاءه لتتحرر بعد قرن وثلث؟ وأين الصلف البرتغالي الذي جثم على الشرق الإسلامي فمزق العمانيون أوصاله ببأسهم وخناجرهم، وطاردوه ذليلاً بسفنهم وعزائمهم؟ وما مآل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؟ ألا يعتبر هؤلاء الإسرائيليون بالتأريخ ومجرياته؟

الثاني: أن من اختلق مشروع الكيان الإسرائيلي في فلسطين علمانيون؛ تاجروا بعلمانيتهم، فضحّوا بقومهم ودين قومهم، فلم ينظروا للأمر إلا من باب السياسة، ولعل وراء ذلك ساسة الغرب للتخلص منهم، ولمآرب استعمارية أخرى. فقد مارس الغرب اضطهاد اليهود، وأوقد لهم أفران الهولوكوست؛ بينما عاشوا عموماً آمنين بين المسلمين وفي ديار العرب، وقد أدرك كثير من اليهود هذا المأزق الخطير على دينهم وأجيالهم القادمة، ولكن ماذا بيدهم والإعلام العالمي تديره الميكنة الصهيونية العتيدة، وتذكيه سياسة استعمارية تريد أن تكون فلسطين بؤرة صراع؛ خاصة.. أنها منطقة نزاع ديني، مما يجعلها متوترة باستمرار وفتيلاً قابلاً في أية لحظة للاشتعال. أما آن لعقلاء اليهود أن يقفوا في صف الحقيقة التأريخية بدلاً من أن يستمروا في رسم «صورة شكسبيرية» عنهم؟ أما آن كذلك للأخلاقيين من قادة العالم أن يطفئوا ناراً وقودها الظلم والطغيان وضحاياها الفلسطينيين؛ الذين لا جريمة لهم إلا أنهم يريدون العيش على أرضهم بسلام؟

الثالث: لم يثبت حتى الآن أي وجود تأريخي أو دليل آثاري في فلسطين للحقبة المزعومة لبناء الهيكل، فبناء الكيان الإسرائيلي لا يقف على حقيقة ثابتة، وإنما على دعاوى، وتأويلات لنصوص دينية، وبالتالي.. تسقط أسطورة الأرض الموعودة بفلسطين. ولذلك.. فإن على اليهود -إن أرادوا سلامتهم- أن يعيدوا بناء منظوماتهم الاجتماعية على حقائق التأريخ فهي ما قد يبقى لهم، وأما الأوهام فيبددها الزمن وصمود أصحاب الحق.

الرابع: الشعب الفلسطيني بطبيعته مسالم، وهو لم يمنع أحداً من ممارسة معتقداته في فلسطين، بيد أن هذا المسالم ذاته يتحول إلى قوة لا تقهر في مواجهة من يريد أن يسلبه حقه وأرضه وإنسانيته، فلا يظن أحد أن الفلسطيني يمكن إرغامه بالقوة أو ترويضه بالسياسة ليتخلى عن أرضه، فهو لا يعرف من قضيته إلا حقاً مغتصباً يجب رجعه، ولا يشاهد أمامه إلا محتلين يجب رحيلهم من بلاده، ومع ذلك.. فقد جرّب دعاة السلام مسار السلام، فأبى المحتلون إلا أن يسدّوه بترساناتهم العسكرية وأحلامهم المتغطرسة، ونظروا للسلام بأنه استسلام، وسعوا جَهدهم لنشر ثقافة التطبيع في المنطقة، ونسوا أن الشعب المؤمن بالسلام لا يؤمن بالاستسلام، وأن حقه يوماً ما سيسترده، ولو بذل لأجله نفسه، هذا هو درس التاريخ الذي لم يبصره الإسرائيليون وهم يتمددون تحت مظلة السياسة الخادعة، وها هم أصحاب الحق يواصلون كفاحهم ويضع الكيان الصهيوني أمام حقيقة نهايته.

الخامس: لم يقرأ الصهاينة تاريخ فلسطين جيداً، وسوف يدفعون فاتورة تغافلهم عنه من وجودهم ذاته، فهم لم يدركوا معنى أن يمر المحتلون على هذه الأرض، فكل المحتلين لم يمهلهم الزمن للمكث طويلاً، فأزيحوا منها، بدايةً من الفرس، حتى الاسكندر الأكبر، ثم الروم، فالبيزنطيين. أين ذهب أولئك؟ ألم تنقَضِ أيامهم؟ ثم أتى الأوربيون مدرعين بفرسان الهيكل تحت راية الصليب، ثم سيطر العثمانيون على المنطقة، فأعقبهم الاحتلال البريطاني، فهل يتصور هؤلاء الصهاينة أنهم باقون للأبد؟ هيهات هيهات.. فالتاريخ لن يخلف عوائده، ولن ينقض سننه لأجل أوهامهم.

السادس: لقد قرأ الغاصبون حركة الدين في المنطقة بصورة خاطئة، فهم يظنون أنهم بصبغ دولتهم بالرؤية الدينية اليهودية؛ بإمكانهم أن يهزموا العرب المسلمين في المنطقة، على اعتبار أنهم هم الأصل، ولهم قدم السبق فيها، وهذا منطق من لم يفهم العقيدة الإسلامية، فالعرب المسلمون منذ مجيء الإسلام لا يكاد يتحركون في حياتهم خارج رؤية عقيدتهم، التي تؤكد على أن الإسلام خاتم الأديان ومهيمن عليها، وأن نبي الإسلام أسري به إلى المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فإن كان هؤلاء اليهود يدركون معنى قوة العقيدة وصلابتها في النفوس، فعليهم أن يغيّروا معتقد المسلمين أولاً، ولعمري.. أن هذا «دونه خرط القتاد»، وهو كـ«متطلب في الماء جذوة نار» على حد قول شاعرنا التهامي.

السابع: لم يأخذ المحتلون في حسابهم بأن وراء الفلسطينيين قوة بشرية هائلة، تنيف على المليار ونصف مليار مسلم، وأنهم يستوطنون رقعة شاسعة من الأرض، ولهم دول، وموارد ضخمة، وعواطف ثائرة، وأن أنظمتهم السياسية تتغيّر، فمن كان بالأمس راضخاً للواقع، فهو اليوم يغالبه. وكثير من هذه القوة البشرية تراهن على حضورها العالمي بطرد المحتلين من فلسطين، وإنهاء هيمنتهم في المنطقة، والواقع يقول بأن الأحداث تتصاعد بهذا الاتجاه.

ختاماً.. العاقل من اعتبر بحوادث الأيام.