صحافة الحلول.. مسار مهني تحتمه مبررات وطنية معاصرة

05 مايو 2021
05 مايو 2021

اهتمامنا بموضوع ما يطرحه عنوان المقال أعلاه منذ فترة طويلة نسبيا، ولم نكن نخطط تناوله صحفيا الآن إلا بعد متابعتنا لحالة التجاذبات بعد الكشف عن توظيف "عشرة" آلاف باحث عن عمل خلال الأشهر الماضية، وكذلك الكشف عن العزوف لشغل "629" فرصة عمل، ظلت التجاذبات حادة عبر التواصل الاجتماعي، وتُركت تصنع السلبية على هذه الجهود، في وقت نرى أن هناك طرفا ثالثا، وهو الصحافة، يستوجب أن يتدخل في الوقت المناسب.

وعدم تدخلها حتى الآن يقف وراء طرحنا لقضية صحافة الحلول، كمقاربة براجماتية تحتمها التطورات الجديدة في العالم، وتزداد أهميتها على صعيدنا الوطني للدواعي التالية:

- الانعتاق من الاقتصاد الريعي، واضطرار الدولة إلى تبني خيار الضرائب ورفع الدعم.. وهذا المسار الجديد، يحتاج ضخ أفكار عديدة ومتنوعة كحلول من وجهات نظر متعددة، أو انضاج أفكار مطروحة تعين على تفادي أو التقليل من التداعيات.

- الرأي العام بقدر ما يريد معرفة حجم المشكلة، يتطلع في الوقت نفسه إلى معرفة كيفية حلها من مصادر أخرى محايدة لدواعي صناعة التوافق أو الاختلاف الإيجابي؟

- جذب الرأي العام لمتابعة صناعة الآراء الملتزمة بضوابط المهنة وبعقلية الحلول الوطنية.

- الحاجة الوطنية إلى وجود هذا النوع من الصحافة لتقريب الحقائق وتوضيح الإشكاليات ورصد ومتابعة تطبيق السياسات والخطط.

فالتحول الاستراتيجي في دور الدولة، وبالسرعة القياسية التي تحدث منذ أكثر من عام وحتى الآن التي يكون وراءها البعد المالي الضاغط، تجعل من مسألة ضخ الأفكار/ الحلول، ثروة تحصن القرارات، وتحسن من نتائجها وتقلل من تداعياتها.

وبالتالي، سيكون الكل معنى ومنشغل بقضية الحلول، وهنا تبرز الأهمية القصوى لصحافة الحلول كإحدى الديناميات الرسمية التي ينبغي أن يكون شغلها الشاغل البحث عن الحل للمشكلة، عوضا على التركيز عليها فقط، والفارق بين النهجين يختلف جوهريا، الأول، سيجعل من الصحافة شريكا في الحل، والثاني، ستعتبر الصحافة من وجهة نظر المسؤولين مزعجة ومقلقة.

وهذا ما تحتاجه مرحلتنا الوطنية الآن من الصحافة، لماذا: لأننا في بلادنا نشعر بوزن وخصوصية وتاريخية مكوننا الديموغرافي، لذلك، لابد أن يكون لدينا هواجس مشروعة من عملية الانتقال التاريخي حيث يكون المتأثر به بصورة بنيوية المكون الديموغرافي الوطني، وهنا القلق الذي ينبغي أن يكون لدى الكل مهما كان موقعه الوظيفي أو تموقعاته في صناعة القرار أو التأثير فيه، وستعد صحافة الحلول أكبر المؤثرين فيه.

واستقراءاتنا للمستقبل القريب وليس البعيد، تذهب إلى أن كل دولة تحافظ على وطنية قوتها الناعمة وتماسكها والتقليل من هوامش الاختلاف داخلها، والعمل على عدم جعلها تتراكم.. وتحصينها من الاختراقات الأجنبية القديمة والجديدة، ستتمكن من مواجهة مخاطر إقليمية وعالمية غير مسبوقة مقبلة، وتحديات أخرى يمكن استشرافها من الآن، وتظهر لنا من زوايا أخرى أنها يبدو ستكون حتمية.

ويمكن الرهان على صحافة الحلول، فهي اسم على مسمى ويغني مسماها عن البيان والتفاصيل، وإن كانت سياقات هذا المقال السابقة قد وضعتنا عند محددات أولية ومهمة للمفهوم، فهي صحافة جادة، لا تلطف المشكلة، كما أنها لا تصنع التهويل، وهي تبرز المشكلة – كما هي – ومن مختلف مصادرها، وتقدم مقترحات للحل من خلال تقارير استقصائية مهنية.

وإذا ما حاولنا توطين مفهوم صحافة الحلول، فهي تعني كذلك الوقوف على الإشكاليات التي تثير الرأي العام، وتقرب وجهات النظر، أو تضع صناع القرار أمام قضايا التطبيق، لدواعي معالجتها بدلا من تركها تدخل في صناعة التشاؤم، فقد يكون وراء التجاذبات أو حتى الاحتقانات معلومة غائبة تبنى عليها التجاذبات والاحتقانات، ويمكن تفاديها سريعا بدل تركها تتجاذب وتعمل منها عويل إذا ما تدخلت الاختراقات الإلكترونية المعادية.

والنموذج الذي قدمناه سابقا عن الوظائف يشكل مثلا للمفهوم التقاربي لصحافة الحلول، فمن ينبغي أن يردم الهوة بين الجانبين؟ هنا مهمة صحافة الحلول من خلال النزول لتقصي حقائق الأرقام من الميدان، ونشرها إما لفك التناقضات التي تولد عدم القناعة، أو الكشف لصناع القرار خلفيات في التطبيق قد تعينهم في عمليات التصحيح.

ومن خلال متابعتنا، لم تبادر أية صحفية بإجراء استقصاء صحفي لإطلاع الرأي العام على الواقع من الميدان، أو تزويد المسؤول بخلفيات التطبيق من جهة محايدة، فما الذي يمنعها من ذلك؟ لو قامت بالمبادرة، وقدمت الصورة الحقيقية بكل مهنية وحيادية، فستكون عامل تهدئة من جهة، أو كجزء من التصحيح من جهة ثانية، وستكون رسالتها مخترقة للقناعات المتجاذبة وإظهار سلبيات التطبيق – إن وجدت - لن يقلل من أهمية السياسات ولا الجهود التي تبذل وإنما ستدفع للتصحيح من جهة وتحتوي الفضاءات التي تعج بالآراء الأخرى.

وقد بحثنا عن الحكمة من ترك علامات الاستفهام التي يبديها البعض بشأن تلكم الوظائف، فلم نجدها، وتركها لتشكل صناعة الرأي السلبي، لن يخدم مستقبل الهدوء في البلاد.. ألخ، خاصة أنها تتعلق بقضية جيل الشباب الذي يشكل أغلبية مكوننا الاجتماعي، وبالتالي، فإن الحكمة الهادفة لإدارة ملفات هذا الجيل نجدها في صحافة الحلول.

فماذا نحتاج حتى ننتقل إلى صحافة الحلول؟ ربما الحاجة هنا تدعو إلى مؤتمر حواري للصحافة، تشارك فيها وسائل الاتصال الأخرى في البلاد، من مرئية ومسموعة حكومية وخاصة.. ينجم عنه ميثاق بالمهنة الجديدة، وتأهيل صحفيين وكوادر استقصائيين لإعداد تقارير مهنية محايدة، يبينون فيها للمسؤول والمجتمع التفاصيل كما هي، ويقدمون الحلول لها، أو يفندون الإشكاليات التي تستعصي على الفهم العام؟

ولا يمكن أن نؤجل الانتقال حتى عقد هذا المؤتمر، أو التحجج بعدم وجود مثل هؤلاء الصحفيين، بل على كل صحيفة وبمبادرة منها ممارسة صحافة الحلول فورا، فلدى كل واحدة منها، كفاءات وخبرات ما يمكن القيام بهذا الدور، لكن يظل تكوين جيل جديد من الصحفيين الاستقصائيين مشروعا وطنيا قائما بذاته من أجل التعميم وترسيخ الممارسات.

وكلما تعمقنا في صحافة الحلول، نجد فوائدها متعددة، فقد وجدناه كذلك، بمثابة الصفة التجديدية لدور الصحافة للخروج من أزمة منافستها الوجودية من قبل الإعلام الجديد، وهذه الصفة، سيعزز بقاء الصحافة كسلطة من السلط المؤثرة والجادة تتناغم مع متطلبات مرحلتنا الوطنية الجديدة، والإقبال على استقصاءاتها وما تنتجه من حلول وتبديد أو تقريب الأفكار والمفاهيم، سيحرص المسؤولون والرأي العام على متابعتها خاصة تلك التي تتخصص في المهنية من منظور توضيح المشكلة واقتراح حلها... الخ.

وأخيرا..

هناك ممارسة لنماذج صحافة الحلول في بلادنا.. لكنها محدودة، ومتواضعة وغير ممنهجة أو مؤطرة ضمن سياقات المفهوم نفسه، وتدخل غالبا في سياق اجتهادات الفردانية في الممارسة والمحتوى الصحفي.