حرب الاتصال

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

منذ عهد بعيد، افترض العديد من المراقبين أن المستقبل الجيوسياسي سَـيُـحـسَـم في معركة بحرية عند مضيق تايوان أو بعض النتوءات الصخرية أو الجزر المرجانية في بحر الصين الجنوبي. مع ذلك، ربما يكون بوسعنا أن نعرف المزيد من خلال دراسة المعاملة التي يلقاها بضعة آلاف من اللاجئين البائسين في مُـنـعَـزَل سياسي في القرن الحادي والعشرين.

لنبدأ بالقناة الإنجليزية. كانت القناة الإنجليزية موقعا لبعض من أكثر المواجهات دراماتيكية في التاريخ ــ من الأسطول الإسباني (أرمادا) وحروب نابوليون إلى إنزال نورماندي ــ لكنها لم تعد الآن مسرحا لسياسات القوى العظمى. بدلا من ذلك، تسبب مقتل 27 مدنيا انقلب قاربهم المطاطي مؤخرا بعد مغادرة الساحل الفرنسي في تحويل القناة إلى موقع لمأساة إنسانية. ولكن بدلا من العمل معا في تضامن مع فرنسا لاستئصال مهربي المهاجرين المسؤولين عن هذه الوفيات، سعى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على الفور إلى الاستعراض أمام جمهور سياسي محلي بإلقاء اللوم على الفرنسيين في رسالة مفتوحة نُـشِـرَت على موقع تويتر.

بعيدا عن كون هذا التصرف مجرد لعبة بهلوانية سياسية صبيانية، فإن عجز جونسون عن القيادة على هذا النحو من شأنه أن يخلف في الأرجح عواقب مروعة وبعيدة المدى. في سعيه إلى إعادة انتخابه في الربيع المقبل، في حملة حيث ستمثل الهجرة قضية حساسة، رد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على فظاظة جونسون بإلغاء الدعوة الموجهة إلى وزير الداخلية البريطاني لحضور اجتماع وزراء الداخلية الأوروبيين في كاليه. ونظرا لانعدام الثقة على ضفتي القناة، تعتقد كل من الحكومتين أن الأخرى تستخدم الصراع كجزء من مباراة أكبر بين القوى تمتد إلى التجارة والدفاع والسياسة الخارجية. بينما تحولت الهجرة إلى كرة قدم سياسية في أوروبا الغربية، فقد استُـخـدِمَـت في قطاع منعزل من الأرض بين بيلاروسيا وبولندا.

الواقع أن بيلاروسيا، وهي ليست وجهة مشهورة للمسافرين من الشرق الأوسط، كانت تنقل المهاجرين جوا، ثم ترسلهم إلى الحدود مع وعد بإدخالهم إلى الاتحاد الأوروبي. الدافع الذي يحرك الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في هذا الصدد واضح: الضغط على الحكومات الأوروبية لحملها على تخفيف العقوبات المفروضة على نظامه منذ الانتخابات الرئاسية المزورة في العام الماضي والتي جرى تشديدها بعد أن أجبر طائرة تجارية على الهبوط لإلقاء القبض على أحد ركابها. لا شك أن لوكاشينكو لا يتوهم أن إدخال بضعة آلاف من المهاجرين قد يكون كافيا لإرباك بولندا، أو حتى ليتوانيا. لكنه يدرك أن أهم ساحات المعارك في أيامنا هذه هي عقول الناس، وليس الأرض. في سعيه إلى إعادة إنشاء الصور من أزمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي عام 2015، يُـعَـد استغلاله للمهاجرين على هذا النحو عملا من أعمال حرب المعلومات في نهاية المطاف.

أوضحت الـعـالِـمة السياسية كيلي جرينهيل أن لوكاشينكو ليس أول من يحول المهاجرين إلى أداة لسياسة الحكومات. وهي توثق أكثر من 75 مناسبة حيث أجبرت حكومات عديدة مدنيين على الرحيل من ديارهم (أو شجعتهم على الفرار) من أجل تحقيق بعض الأهداف السياسية، أو العسكرية، أو الاقتصادية. لقد أصبح استخدام الهجرة كسلاح ممارسة تكميلية متكررة لأشكال أخرى من الضغط مثل العقوبات، والحرب السيبرانية وحرب المعلومات، وسياسات التجارة والبنية الأساسية.

في هذا السياق، تُـعَـد كل من الحملة البيلاروسية والمشادة حول القناة الإنجليزية من أعراض بيئة السياسة الخارجية المتغيرة حيث يُـسـتَـعاض عن الحروب التقليدية بأشكال جديدة من العدوان. وهنا تُـعَـد قوة الاتصال والارتباط بين الناس والبلدان العملات الجديدة المفضلة للقوة.

وَصَـفَ الـمُـنَـظِّـر العسكري كارل فون كلاوزفيتز الحرب على أنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى. لكن في العصر النووي، تكون الحرب في الأغلب الأعم خيارا لا يمكن سبر أغواره، ولهذا كان لابد من استمرار السياسة العالمية بوسائل أخرى ــ ما أسميه "صراعات الاتصال". الواقع أن الحكومات تتلاعب بذات الأشياء التي تربط البلدان ببعضها بعضا: سلاسل التوريد، والتدفقات المالية، وحركة الناس، والجوائح، وتغير المناخ، وفوق كل ذلك الإنترنت. في حين تحرض جائحة فيروس كورونا البشرية جمعاء ضد مرض مُـعـدٍ واحد، يجري الآن تأجيج جائحة أخرى عمدا من الظلال. لقد أصبحت السلوكيات السامة معدية حيث يستجيب القادة الوطنيون لاستخدام قوة الاتصال كسلاح من خلال الرد بالمثل. سوف يكون من الصعب عكس الاتجاه الهابط الناتج عن ذلك، لأن صراعات الاتصال تدور عادة تحت سحابة من النفاق والإنكار المعقول ظاهريا. فقد يزعم لوكاشينكو، وإن كان ذلك على نحو غير مقنع، أن المهاجرين من الشرق الأوسط سافروا إلى بيلاروسيا بمحض إرادتهم. على نحو مماثل، قد يدّعي الاتحاد الأوروبي أن قرار تعليق التصديق على خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يربط ألمانيا بشكل مباشر بإمدادات الغاز الروسية اتُـخِـذ على أسس إجرائية لا علاقة لها بالسياسية.

إن الطبيعة غير الرسمية التي تتسم بها مثل هذه النزاعات تجعل من الصعب فهم الأسباب وراء اتخاذ قرارات بعينها. لا يزال لزاما على الحكومات أن تجد الأطر المناسبة لتقييم حتى اختياراتها. على سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالقرارات بشأن الهجرة، كيف ينبغي لأي حكومة أن ترتب أولويات القانون الدولي، وسلامة البشر، ونفوذها الشخصي؟ هل كان المقصود من سياسات التجارة أن تعمل على زيادة الأرباح أو النفوذ الوطني؟ هل من الجائز أن يكون هدفها تقليص التكلفة التي يتحملها المستهلك في الأمد القريب، أو حماية المنتجين المحليين من المنافسة غير العادلة (وبالتالي منح المستهلكين اختيارات أكبر في الأمد البعيد)؟ بدلا من إزالة التوترات القائمة بين البلدان، تقدم قوة الاتصال وسائل جديدة للتنافس والانخراط في الصراع. ليس من المستغرب أن يصبح الخط الفاصل بين الحرب والسلام مطموسا على نحو متزايد.

لقد ولى وذهب عالَـم تولستوي حيث كانت فترات التناوب بين الصراع المفتوح والوئام محددة بوضوح. لقد دخلنا حقبة من الصراع الدائم، حيث سيكون أغلب المقاتلين وكل الضحايا تقريبا من المدنيين. في ما أسميه "عصر اللاسلم"، تحول بؤساء الأرض إلى عتاد حربي دون أن يدروا.

** مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

** خدمة بروجيكت سنديكيت