امتناع الديمقراطية أم امتناع التخلف؟

09 يونيو 2021
09 يونيو 2021

مع التحولات والإخفاقات التي شهدتها بعض الدول العربية منذ مرحلة ما سمي بالربيع العربي، ثمة أسئلة كثيرة بدأ التسويق لها باتجاهات يمكن القول انها نابعة من ردود فعل مشوشة، أنتجتها حالة التفكك التي ضربت بعض البلدان العربية جراء تفاعلات ذلك الربيع، كما أن بلداناً أخرى (كلبنان) بدت ملامح التفسخ فيها من خلال علاقة ما بأسباب تلك التأويلات المتصلة بالأسئلة التي يطرحها اليوم ما آل إليه الوضع في بعض دول المنطقة.

ثمة أسئلة تصاغ كإجابات تحاول أن تقنع البعض بأن ما كان من حال بعض البلدان العربية، قبل الربيع العربي، هو أفضل الممكنات لواقع تلك البلدان؛ في تعامٍ واضح عما كانت عليه تلك البلدان من أحوال ظلت مرشحة باستمرار للانفجار.

وثمة من يطرح أسئلة استنكارية حتى عن جدوى القيم والمبادئ الأخلاقية التي كانت في بعض عناوين ثورات الربيع العربي، كالعدالة، والحرية، والكرامة! وثمة من استبطن وعياً أضمر يقيناً بأن الديمقراطية ليست مما يليق بأحوال تلك البلاد التي كانت فيها نهايات الربيع العربي نهايات كارثية، كأن الديمقراطية في ظنه ميراث محصور ببعض الأمم؟ ما حدث في بلدان الربيع العربي، الذي كان، في جزءٍ منه، جواباً مفحماً على مقولة المستشرق برنارد لويس حول ما أسماه بـ«الاستثناء العربي» الذي قصد به امتناعاً «عنصرياً» للعرب في تقبلهم للديمقراطية، كان في الجزء الآخر منه، تعبيراً عن مسافة التباعد الكبير في النسبة والتناسب بين التخلف وكلفة أطوار الخروج من ذلك التخلف. ذلك أنه من الأهمية بمكان لكي ندرك طبيعة التخلف الراسخ في المنطقة العربية أن ندرس تاريخ الاستبداد ونتعمق في الإشكالات التي رسخها في حياة الناطقين بالعربية عبر حقبٍ متطاولة، والقوانين الاجتماعية التي استقرت بفعل ذلك الاستبداد في تلك الحياة العربية الممتدة لقرون عديدة.

وفيما فصَّله المفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المهم: «طبائع الاستبداد» إضاءات مهمة جداً وتعبيرات كاشفة عن عمق ذلك الاستبداد الذي أورث التخلف. وإذا كانت الديكتاتورية كمفهوم سياسي غربي قد لعبت دوراً مضللاً في الاسقاطات التي تطرحها بعض الأدبيات السياسية العربية حيال أنظمة الاستبداد، فإن مفهوم الديكتاتورية، بالرغم من أنه جزء من مشمولات الاستبداد لكنه، في الوقت نفسه، مفهوم مضلل متى ما اعتمدناه أداة لتحليل الأوضاع السياسية في بعض البلدان العربية قياساً على بعض الديكتاتوريات التي شهدتها أوربا الفاشية، من خلال نظامي ألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني.

فمن خلال تلك الأنظمة الفاشية يتبدى لنا مفهوم الدكتاتورية واضحاً في انفصاله عن مفهوم الاستبداد، فالأخير لم يكن من مشمولات الحياة الأوربية في ألمانيا وإيطاليا، قبل صعود الفاشية فيها، بل إن المفارقة هنا تكشف لنا: أن الفاشية الألمانية التي تحولت إلى ديكتاتورية، صعدت عبر آليات ديمقراطية (انتخابات - تحالفات حزبية)، فيما الاستبداد مفهوم أكثر شمولاً وتجذراً من الديكتاتورية كونه علاقات شبكية أفقية ورأسية من حيث شمولها للمجتمع عبر مفهومها الأوتوقراطي: استبداد الكبير على الصغير، الرئيس على المرؤوس، الرجل على المرأة، وغير ذلك من العلاقات المعطوبة. وبطبيعة الحال إن الاستبداد المتطاول حين يكرس لقواعد تلك العلاقات عبر قرون طويلة سيكون من شبه المستحيل تعطيل اشتغال آلياته عن جوانب كثيرة في المجتمع حتى في ظل الثورات ذات الطابع السياسي، وإذا كان في الاهتزاز السياسي (الذي طال تغييره بعض أنظمة الحكم في المنطقة العربية) ما أوحى للبعض بنهاية الأمر، فإن اشتغالات النظم الاجتماعية الأبوية للعلاقات الموروثة من التخلف هي التي ظلت باستمرار بمثابة العصي في دولاب التغيير السياسي.

وهكذا، فيما يضعنا التخلف أمام اختبارات فشل حقيقية حيال سلبية خياراتنا في العمل الحزبي، سنجد ذلك واضحاً مثلاً في عدم اقتناع أحزابنا السياسية ببديهية مفهوم : «الاتحاد قوة» في قواعد العمل السياسي، بحيث تكون كلفة الخسائر التي سنعرفها بعد ذلك بسنوات، جرَّاء إهمال تفعيل مفهوم «الوحدة» في العمل السياسي والآثار المترتبة عليه كبيرة وخطيرة جداً.

فكل من يختبر أساليب العمل السياسي للأحزاب في بعض البلدان التي شهدت الربيع العربي سيدرك أن المشكلة ليست في جدوى قيم العدالة والحرية والكرامة، ولا في جدوى الديمقراطية، وإنما في التخلف!