الهويات المعاصرة لماذا ترفض الاندماج؟

22 سبتمبر 2021
22 سبتمبر 2021

عبد الله العليان

منذ عدة سنوات مضت في الحقل السياسي الغربي، وحتى قبل أسابيع خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة والحلفاء من أفغانستان، لوحظ ازدياد الحديث من قبل عدد من المسؤولين الغربيين عن أهمية تعزيز القيم الغربية ومنها مسألة الهوية، ومن خلال نخب فكرية وثقافية كبيرة في مؤسسات وهيئات معرفة كبيرة مؤثرة، تكرر ترديد عبارات.. هويتنا.. وقيمنا.. وثقافتنا، وهذه النغمة بدأت تظهر وتبرز على وسائل الإعلام بصورة لم تكن تسمع منذ عقود، وكأنها موجهة للمسلمين وتمسكهم بهويتهم في بلاد المهجر، وهذا ظاهرة لافتة من الغرب نفسه ، الذي كان لا يتحدث بمثل هذه العبارات، خاصة بعد الانفتاح السياسي والفكري والديمقراطي وحرية التعبير، وقد كان لا يمل من تكرار عبارات التعددية والتسامح والتلاقي على المشتركات الإنسانية الخ: وكما تعرف كان الغرب منغلقا على نفسه منذ العصور الوسيطة، ولا توجد هويات منافسة له في هذه القارة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ، التي انتهت فيها الهوية الهندية منذ عدة قرون، وتم إدماج من تبقى من هذه الهوية مع الهوية الغربية، وعندما جاء عصر ما سمي بـ(عصر التنوير)، وبروز العقد الاجتماعي، وما تبعه من نظم على أسس أكثر انفتاحا كما أشرنا آنفاً، إلى جانب التداول السلمي للسلطة ، وما تبعها من حرية الصحافة وحرية قبول المهاجرين، وبدأت مرحلة التقدم الصناعي، انفتح الغرب على الشعوب الأخرى، خاصة القوى العاملة من دول عدة، واستقدم بعد ذلك هجرات من الدول التي تم استعمارها.

وهذا كان جيدا بلا شك لهذه الشعوب، من حيث الاستفادة من مجالات العمل والتعليم والخبرات في النهضة الغربية الحديثة، لكن هذه الشعوب احتفظت بهويتها وقيمها الذاتية، ولم تعترض بعض هذه الدول على هذه الاختيارات الشخصية ، من تمسك هذه الشعوب المهاجرة بهويتها وثقافتها الذاتية، وهذا لا ينطبق على كل الدول ، والقليل من هؤلاء انسجم مع ثقافة الغرب واندمج فيها، لكن الغالبية ظلت على استمساكها بهويتها وتقاليدها الخاصة، وخاصة الدين وقيمه وشعائره والمحافظة عليها ، لكن هذه الحرية والتعددية والتنوع الذي أصبح واقعاً معترفا به في هذه الدول، باعتباره من ضمن الحريات التي دعت عليها الدساتير في الغرب في أغلب دوله ، لكن بعض دول الغرب نفسها عندما ازدادت الهجرات إليها بموجب القوانين السائدة بدأت تتراجع وتضع القوانين والنظم المقيدة للكثير من الهويات والقيم الذاتية ، ومنها فرنسا بالأخص، وكأن بعض السياسيين والنخب ، خاصة من اليمين الراديكالي، لا تريد أن تتعدد الهويات وتتحرك بالتبشير لأديان هذه الأقليات التي تقدر بالملايين، بعد دخول عشرات الملايين من الشعوب الغربية نفسها في الديانة الإسلامية وغيرها.

والآن أصبح آلاف من المسلمين في الغرب والولايات، من يحملون الشهادات العالية في كل العلوم والإنسانية والعلمية بكل تخصصاتها، وهم الآن أساتذة في كل الجامعات في أوروبا، ويعملون بإخلاص في هذه الدول ، سواء كانوا مسلمين من أصل تلك الدول، أو كانوا مهاجرين من دول إسلامية، فقضية انصهار هوياتهم في ثقافة بلدان الغرب وقيمه تحت مقولة الاندماج ، مسألة غير مستساغة منهم، ولم تقبل من الغالبية ، لأن فكرة القيم والتقاليد والعادات، مسألة لصيقة باللغة أولا، ثم بالثقافة ، ويكفي أن يلتزموا بالقوانين والنظم بهذه الدول، وهذا هو الجانب الأهم في التعامل مع الأقليات المهاجرة ، وأفضل تعبير عن الهوية ما قاله الفيلسوف الألماني هيدجر عندما سأل عن هوية اللغة :» إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري ،هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها انظر إلى بقية أرجاء الكون».

فقضية الهوية اللغوية والهوية الفكرية، قضية داخلة في الوعي والفكر الإنساني منذ ولادة الشخص ، وهذه مسألة حساسة عند محاولة ذوبانها وأنصارها في الآخر، والتخلي عنها وعن مضامينها، ثقيلة على النفس والعقل وجعلها تابعة في هوية أخرى، من الصعب أن تقبل بكل سهولة، صحيح أن العدل والمساواة والمعاملة بالمثل، قد تجد الهويات الأخرى لها منافذ عند البعض وقد تتقارب الهويات وتتفاعل مع بعضها البعض وهذا مطلوب في حدود الاعتراف بالاختلاف الثقافي، أما من خلال القسر والإلحاق، أو إهانة أو الاستخفاف بالهويات الأخرى، فهذه تأتي بآثار عكسية، ويزداد الالتحام بالهوية أكثر للحفاظ عليها المهددة بالانقراض، ونرى من خلال بعض الحيوانات عندما تشعر بالخطر، تلتف حول نفسها، لتواجه الخطر الماحق عليها، وتلك فطرة خُلقية في هذه المخلوقات، ومنها الإنسان، فعندما يرى تهديدا لهويته وثقافته التي هي جزء من كيانه وشخصيته فيشعر بالخطر ويواجه للدفاع.

ويشير د/ أحمد درويش في كتابه (إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية)، إلى قصة غريبة ولافتة في قضية الثأر لانتهاك الهوية الذاتية ، ففي فترة الحرب العالمية الثانية ، كان أحد الجواسيس الألمان دخل فرنسا بهذا الهدف، و»استطاع أن يتقن اللغة الفرنسية إتقانا كاملاً، وألا تبدو عليه في نطقه أية لكنة أجنبية، واستطاع من خلال ذلك أن يتسرب إلى أكثر الأوساط خصوصية في عالم السياسة والحرب، حتى شك فيه خبراء مكافحة الجاسوسية أنفسهم في ظنونهم المثارة حوله، وأخيراً، دلهم أحد الخبراء اللغويين على إمكانية استثار لغة الأم في لحظة انفعال مفاجئ، فتعقبه أحد المراقبين أثناء سفره في القطار وهو منهمك في قراءة الجريدة، ووجه إليه صفعة مباغتة أغضبته فرد عليه بعبارة استنكار بالألمانية قبل أن يشتبك معه، وكان هذا وحده كافيا لإثارة لغة الأم عنده، ولإدراك أن لغته الفرنسية المتقنة، إنما هي لغة مكتسبة، وأنه في نهاية المطاف جاسوس، وذلك ما أراد خبير اللغة أن يكشفه». وهذا ما يبرز تأثير الهوية اللغوية، ولذلك تظل الثقافة المغروسة عصية على التبديد والذوبان لتدمج في ثقافة الأقوى، فهي عندما تهاجم أو توجه إليها أية استثارة، فسرعان ما تخرج صاحبها عن صمته دون وعي، مثلما حصل للجاسوس الألماني.

إذن قضية السعي إلى صهر الهويات في هوية أخرى مختلفة في رؤيتها للكون والحياة، مسألة صعبة في أن تجد لها المنافذ السهلة والميسورة، فقد تحدث اختراقات محدودة، لكنها تظل هامشية، وهذا ما جرى للبعض، لكن الغالبية العظمى ستبقى عصية على الذوبان والانصهار، وهو ما يقلق بعض السياسيين والمثقفين من اليمين المتطرف في الغرب، ويتم استغلال بعض الممارسات لبعض الجماعات المتطرفة ، لأسباب فكرية محددة من كل الهويات، لكن الإنصاف عدم تعميمها على الجميع، فالمسألة هي أن الإثارة والاستفزاز ومحاولة إقصاء هوية بعينها أو الضغط عليها، هي التي تجلب التوتر والتطرف، وعدم إيجاد وسائل التفاهم والتواصل بين النخب الفكرية. ويذكر الفيلسوف الغربي المعروف» يورغن هابرماس، وهو من الناقدين لمسألة إقصاء الهويات الأخرى أو محاولة إدماجها قسراً، ففي محاضرة له قبل سنوات بعنوان (أوروبا ومهاجروها) ، انتقد الممارسات التي يقول بها بعض من سماهم بـ» صقور الليبرالية فيقول: «الاندماج الناجح، هو مسار تعليمي يقوم على أساس المعاملة بالمثل..إن الدعوة الهستيرية للدفاع عن «قيمنا» بمثابة تسلّح دلالي ضد عدو داخلي غير محدد. معاقبة ومحاربة الكراهية، تتطلب ثقة في النفس هادئة وليس التحريض.. ولا ينبغي لنا أن نتبع أيضاً جورج دبليو في عسكرة العقل الغربي، تزايد التوتر الثقافي بين المسيحية والإسلام منذ2001، قد أثار نزاعاً مثيراً، على مستوى عال، بين الطوائف.. يجب على الدولة الليبرالية أن تلزم كل المعتقدات الدينية بأن ترتضي بحسن المعاشرة بين الإيمان والعقل. هذه القيمة لا يجب أن تكون كمطلب وكملكية خاصة مرتبطة بالدين لخط تقليدي غربي بحت». إذن هذه الرؤية العقلانية من فليسوف في المطالبة في الانفتاح على الهويات الأخرى، والمعاملة بالمثل، وأن تكون ـ كما قال هابرماس ـ «الثقة بالنفس هادئة» فهي أزمة فكرية في الغرب من عدم اندماج المهاجرين في الغرب والذوبان في الثقافة الغالبة في هذا العصر.