القوة الناعمة للتأليف والنشر

08 مايو 2021
08 مايو 2021

عائشة الدرمكية -

تقدم الثقافة إمكانات مهمة للتنمية المستدامة فالأهداف الإنمائية للألفية 2030 اعتمدت على الثقافة في تحقيق غاياتها؛ ذلك لأنها – كما ورد في تقرير الجمعية العامة للأمم المتحدة (العولمة والترابط . الثقافة والتنمية المستدامة) – «... تمثل مصدرا للهُوية والابتكار والإبداع بالنسبة للفرد والمجتمع، وأنها عامل مهم في بناء الإدماج الاجتماعي، والقضاء على الفقر، وتوفير شروط النمو الاقتصادي، وتولي البلدان زمام عمليات التنمية». ولأنها كذلك فهي مسؤولة عن العديد من مناشط التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

ولعل السعة التي يتميز بها قطاع الثقافة المتمثلة في تنوع مجالاته وأنشطته، مكَّنته من المساهمة في تحقيق العديد من الأهداف التنموية عبر الألفيات السابقة، الأمر الذي يجعله اليوم يحظى باهتمام كبير من قِبل تلك الدول التي تطمح إلى الريادة في مجتمع المعرفة والاستثمارات المعرفية. ولأن التنمية تقوم على رأس المال المعرفي فإن الاهتمام بالتأليف والطباعة والنشر يُعد من تلك الأولويات التي تتنافس عليها الدول خاصة في ظل تعدد وسائل النشر ووسائطه من ناحية، واعتماد مجتمع المعرفة على تنامي مجتمع المعلومات ووفرتها من ناحية أخرى.

ولهذا فإن مجال التأليف والنشر يُنظر إليه باعتباره ركيزة مهمة من ركائز المعرفة، والعمل على تنميته هو بناء للإبداعات الحيوية التي تقوم عليها أهداف التنمية المستدامة 2030، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن الدول التي تعتني بهذا المجال الحيوي دول قادرة على إنتاج ما يُسمى بـ(الإبداع الخلاَّق) القائم على الفكر المعرفي، والذي يسهم في دعم الحِراك الاقتصادي والتنمية الاجتماعية؛ ذلك لأن التأليف والنشر من الصناعات الثقافية المتنامية التي تُنتج مجموعة من الأنشطة الثقافية والاقتصادية المرتبطة بالصناعات الإبداعية في القطاعات السمعية والبصرية والإعلام الجديد، والفنون المسرحية والأدائية وغيرها، مما يجعلها دوما في ارتباط بالمبدعين في شتى المجالات، وبالتالي يقدمها باعتبارها أنشطة قادرة على دعم التنمية الاقتصادية.

ذكرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تقرير لها عن الثقافة والتنمية المستدامة أن قطاع النشر والطباعة في المملكة المغربية يمثل العمل فيه «نسبة 1.8 في المائة من إجمالي القوة العاملة، ويعود بدخل يزيد على 370 مليون دولار»، الأمر الذي يكشف قدرة هذا المجال في قطاع الثقافة على تشغيل القوى العاملة والمساهمة في دعم الدخل الوطني، ناهيك عن تلك القوة الاقتصادية التي سيمثلها النشر في التوظيف الإلكتروني وتلك الصناعات الإبداعية التي يمكن أن يحققها في حال تم العمل على توظيفه وإثرائه.

وللأهمية القصوى التي يمثلها هذا القطاع الثقافي فإن سلطنة عمان اهتمت به اهتماما كبيرا سواء من خلال السياسات الثقافية والإعلامية، أو من خلال دعم التأليف والنشر، أو تشجيع إنشاء المكتبات ودور النشر الخاصة وغير ذلك، ولعل هذا الاهتمام وذلك الدعم أسهم في تنشيط حركة التأليف والطباعة والنشر منذ سبعينيات القرن الماضي حتى أصبح لدينا العديد من المؤلفات المنشورة أو المصادر المعاد نشرها في شتى علوم المعرفة. إلا أننا اليوم نحتاج إلى تقييم ما تم إنتاجه في الحقبة الماضية في هذا المجال، ومراجعة تلك السياسات والوسائل لتتناسب مع ما تنشده الدولة في رؤيتها المستقبلية 2040، وما تطمح إليه التنمية الثقافية في عمان.

ورد في نشرة الإحصاءات الصناعية للبلدان العربية الذي نشرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا) بالتعاون مع المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين (ايدمو)؛ أن عدد العاملين في قطاع النشر والطباعة في عُمان حتى العام 2014 بلغ (1.722)، بمتوسط رواتب وأجور بلغت (7.604)، وأن متوسط الإنتاج في هذه القطاع بلغ (67.457)، وعلى الرغم من أن هذا التقرير شمِل تلك المنشآت التي يعمل فيها عشرة أفراد أو أكثر، إلا أنه يكشف تلك القوة الاقتصادية التي يمكن أن يمثلها تنمية هذا القطاع ودعمه ليستطيع استيعاب المزيد من القوى العاملة، وبالتالي رفد الاقتصاد الوطني.

حيث أظهرت النشرة التنامي المتزايد لهذا القطاع في عُمان في أعداد العاملين وأجورهم ما بين (2011-2014) باعتباره من القطاعات الاقتصادية المهمة التي تعتمد عليها الدولة في الإنتاج الصناعي، مما يعكس قدرته على تنمية القيمة المضافة التي بلغت في العام 2014 (43.999) بعد أن كانت (31.393) في العام 2011 – بحسب التقرير –، الأمر الذي يجعل من (الطباعة والنشر) قطاعا واعدا في الصناعات الثقافية، وسيسهم مباشرة في التنمية الاقتصادية للدولة.

إن الاستثمار في قطاع التأليف والطباعة والنشر يُعد من الأنشطة الثقافية التي تعتمد على مدخلات الإبداع ومخرجاته وبالتالي يُقدم نفسه باعتباره ركيزة مهمة في تنمية مجتمع المعرفة بدءا من إنتاج المعرفة ونشرها وانتهاء بقياس أثرها. إنه قطاع قادر على تأسيس المعرفة وتقديمها في صناعات ثقافية تنموية؛ وعلى الرغم من اهتمام السلطنة بهذا القطاع إلا أن نتائج مؤشر الابتكار العالمي 2020 وضعها ضمن (ركيزة مخرجات الإبداع) في ترتيب متوسط أو أقل في مؤشر (نسبة الصناعات في مجال النشر والطباعة)؛ حيث جاءت السلطنة في الترتيب (86) بتقدم ثلاث درجات عن العام 2019.

إن نتيجة هذا المؤشر تُنبئ عن إشكالات أو لعلها تحديات جعلت السلطنة رغم الجهود التي تبذلها المؤسسات والأفراد العاملين في هذا القطاع ضمن هذه المجموعة من الدول ذات الأداء المتوسط، ولهذا فإن العمل على تقييم السياسات والأنظمة التي تحكم هذا القطاع مهم جدا إذا ما علمنا أن السلطنة جاءت ضمن المراتب المتأخرة عالميا في ركيزة (نشر المعرفة) – بحسب التقرير نفسه -؛ حيث وردت في المرتبة (114)، والأمر نفسه في ركيزة (الأثر المعرفي)؛ حيث جاءت في المرتبة (121).

ولعل اهتمام الشباب المبدع بتنمية قطاع التأليف والنشر في السلطنة يُعد من مصادر القوة التي يمكن أن تشكل فارقا في التنمية الثقافية، حيث ظهرت المبادرات المنتشرة في ربوع السلطنة ما بين مكتبات بيع الكتب ودور النشر والمقاهي الثقافية وغيرها من المبادرات الخاصة بالكتاب والنشر، وهي مبادرات ذات طابع مجتمعي واقتصادي ثقافي، يقودها في الغالب مجموعة من المبدعين في مجالات الثقافة المتنوعة، الأمر الذي يعزز دورهم في دعم الحِراك التنموي والاقتصادي للدولة.

ولهذا فإن هذا الحِراك جعل حركة النشر تتزايد خلال السنوات الخمس الأخيرة – كما تكشفه إحصائية (الثقافة مشاركة وانتشار 2020) الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات - حيث بلغت نسبة الارتفاع في أعداد الكتب المنشورة (52.7%)؛ ففي حين كانت أعداد الكتب المنشورة في العام 2015 (502) كتابا، بلغت في العام 2019 (767) كتابا. غير أن هذا الارتفاع لا يكشف الفاقد الذي يشكله النشر الخارجي من ناحية، وتوظيف الكتب المنشورة في تحقيق المعرفة من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل من القيمة المضافة لهذه الإصدارات غير واضحة من الناحية الاقتصادية والمعرفية.

إن قطاع التأليف والطباعة والنشر يمثل ركيزة أساسية في التنمية الثقافية والاستثمار المعرفي، ولهذا فإن تعزيزه يمثل قيمة مضافة علينا العمل عليها أفراد ومؤسسات؛ فليست الحكومة مسؤولة وحدها عن تنمية هذا القطاع بل القطاع الخاص والمبدعون والمستثمرون (الممولون، والمؤلفون، والمبدعون في المجالات الثقافية المتنوعة)، كلهم عليهم مسؤولية تنمية هذا القطاع وتطوير آفاقه وابتكار وسائل نشر معرفية تسهم في تحقيق الأهداف التنموية التي ننشدها، وهذا لن يتم سوى بتلك السياسات والإجراءات الميسَّرة التي تسهم في تعزيز الاستثمار الثقافي وبالتالي مساهمته المباشرة في التنمية الاقتصادية.