الضريبة العالمية على الشركات متعددة الجنسية.. فوائد ومحاذير

26 يوليو 2021
26 يوليو 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي -

في العاشر من يوليو الجاري توصلت مجموعة العشرين، وهي مجموعة الدول المؤثرة في الاقتصاد العالمي، إلى ما قيل عنه إنه اتفاق تاريخي لفرض ضريبة عالمية على أرباح الشركات متعددة الجنسية. وقد نص الاتفاق على أن تقوم الدول بفرض ضريبة لا تقل عن ١٥٪ على أرباح الشركات عابرة الأوطان transnational corporation أو التي تسمى أيضا بالشركات متعددة الجنسية multinational corporations. وتم الاتفاق على تطبيق تلك الضريبة اعتبارًا من شهر أكتوبر عام ٢٠٢٣.

وقد قيل عن هذا الاتفاق بأنه أكبر تغيير في منظومة الضرائب العالمية منذ حوالي قرن من الزمان، وأنه سيضع حدًا لتنافس استمر لعقود طويلة بين الدول لاجتذاب الاستثمارات العالمية إليها من خلال تقديم تخفيضات أو إعفاءات ضريبية متزايدة للشركات العالمية.

وقد أدت تلك التخفيضات الضريبية إلى خسائر مالية كبيرة بلغت مليارات الدولارات في حين كانت الدول ولا تزال في حاجة ماسة إلى تمويل العجز المتصاعد في ميزانياتها. ويبدو أن الآثار الاقتصادية السلبية لجائحة «كوفيد-١٩» واشتداد حاجة الدول إلى موارد مالية جديدة لتغطية عجوزات ميزانياتها كان وراء التعجيل بالتوصل إلى هذا الاتفاق. المعلوم أن بعض الاقتصاديين من أمثال الاقتصادي الفرنسي توماس باكيتي Thomas Piketty قد دعوا منذ سنوات إلى تطبيق مثل هذه الضريبة للتخفيف من الفروق وعدم المساواة inequalities في الدخول والثروات، سواء داخل المجتمعات أو بين الدول.

وبموجب هذا الاتفاق ستتحول حقوق فرض الضرائب على الأرباح التي تحققها الشركات عابرة الحدود إلى الدول التي اكتسبت فيها الشركات أرباحها، وليس الدول أو المناطق التي يقع فيها المقر الرئيس headquarter للشركة، وهي دائما مناطق ذات نسب ضريبة منخفضة. وحسب بعض التقديرات فإن هذه الضريبة يمكن أن تدر على الدول مجتمعة دخلًا ضريبيًا إضافيًا لا يقل عن ١٥٠ مليار دولار سنويا.

ويأتي هذا الاتفاق على أثر اتفاق أوسع تم في الأول من الشهر الجاري بين ١٣٠ دولة أعضاء في ما سميَ «مجموعة العمل» التي تضم ١٣٩ دولة من الدول الصناعية والناشئة، وذلك على إثر مناقشات طويلة تمت برعاية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD التي يقع مقرها في باريس. غير بعض الدول التي تقل فيها نسبة الضريبة عن الحد الأدنى الذي تم إقراره، ومن بينها أيرلندا والمجر وقبرص وكذلك نيجيريا وكينيا وسريلانكيا ودول أخرى صغيرة، لم تكن من بين الدول التي وافقت عليه. وبالإضافة إلى أن الاتفاق قد أنهى التنافس بين الدول لاستقطاب الشركات العابرة للحدود أو متعددة الجنسية إليها من خلال تقديم تخفيضات ضريبية، فإنه أيضا حرم تلك الشركات من ملاذات تأوي إليها من أجل دفع ضرائب تقل عن ١٥٪ وهو ما تفعله حاليا بتحويل أرباحها إلى دول ومناطق ذات ضرائب منخفضة، مثل: جزيرة برمودا وجزيرة كيمان والجزر العذراء البريطانية وليبيريا.

وتشير العديد من التحليلات إلى أن شركات الإنترنت، مثل: أبل وفيسبوك وأمازون وجوجل ستكون أكبر الشركات المتأثرة بهذه الاتفاق، إلا أنه يبدو أن ذلك سيشمل كل الشركات المتعددة الجنسية، بما فيها شركات التقانة وشركات النفط والبنوك وشركات التأمين.

ومع أن أكثرية دول العالم قد أقرت هذا الاتفاق، لكن مسألة تطبيق الضريبة المقررة يبدو أنها لا تزال محل أخذ وعطاء في بعض الدول الأوروبية، مثل المجر وأيرلندا وقبرص. أما الدول التي وافقت عليه فستقوم بتعديل قوانينها الضريبية بناء على ما تم التوصل إليه، وهو أن لا تقل نسبة الضريبة على الشركات الأجنبية فيها عن ١٥٪ من الأرباح. وطالما أن تلك النسبة هي الحد الأدنى للضريبة الواجب فرضها، فإنه يبدو أن الدول لن تستطيع تخفضيها أو منح إعفاءات أو فترات سماح للشركات، حتى في حالات الطوارئ أو لتحفيز الاستثمارات، إلا بموجب ترتيبات مع بقية الدول، سواء سيكون ذلك في إطار «مجموعة العمل» التي ترعاها منظمة التعاون والتنمية OECD أو في إطار دولي آخر.

المعلوم أن السلطنة خفضت بصورة مؤقتة ضريبة الأرباح على الشركات في أوائل هذا العام من ١٥٪ إلى ١٢٪، دون تمييز بين الشركات الوطنية وغيرها، وذلك في إطار الإجراءات التي اتخذتها لمواجهة جائحة «كوفيد-١٩»، وهو إجراء مشابه لما قامت به دول أخرى في السياق نفسه.

مما لا شك فيه أنه سيترتب على هذا الاتفاق تغيرات في الاقتصاد العالمي، لا سيما في مجال الاستثمار وتجارة الخدمات، وربما ستحتاج بعض الدول إلى مراجعة الاتفاقيات المعروفة باتفاقيات منع الازدواج الضريبي والتي وقعت السلطنة عليها مع عدد كبير من الدول. وربما سيؤدي الاتفاق كذلك إلى تغييرات في المعايير المحاسبية والضريبية. ومع أن بعض الدول بدأت منذ اللحظة الأولى لتوقيع الاتفاق في الإشارة إلى أنها ستطلب استثناء من بعض الجوانب فيه، مثل بريطانيا التي ألمح وزير الخزانة فيها إلى احتمال طلب استثناء حي المال والأعمال في لندن من الالتزام بالحد الأدنى للضريبة، إلا أنه من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان الاتفاق يسمح باستثناء الشركات التي تعمل في المناطق الاقتصادية الخاصة والحرة. ومن غير الواضح كذلك ما إذا كان يمكن للحكومات إعطاء الشركات فترة سماح من الضرائب على أرباحها من أجل جذبها للاستثمار في بعض القطاعات، كما هو حاصل الآن في السلطنة وغيرها من الدول، حيث يمكن للشركات التمتع بفترة سماح مدتها خمس سنوات. لذلك تجب دراسة هذا الاتفاق من كل جوانبه من أجل التعامل مع الآثار المترتبة عليه، حتى لا يتم تمريره من قبل منظمة التعاون والتنمية OECD والدول الصناعية الكبرى، دون مراعاة لمصالح الدول الأخرى، وذلك كما فعلت سابقا حين فرضت أنظمة وإجراءات على الدول الأقل نموا، مثل أنظمة وإجراءات مكافحة غسل الأموال التي فرضتها من خلال ما يعرف بفريق عمل المهام المالية Financial Task Force (فاتف FATF). المعروف أن مجموعة فاتف FATF كانت ولا تزال تتشدد على بعض الدول في تطبيق مبادئ مكافحة غسل الأموال في حين تعجز أو تغض الطرف عن اتخاذ أي إجراء ضد بعض الدول الغنية التي يتم فيها غسل الأموال على نطاق واسع وبما يصل سنويًا إلى مليارات الدولارات.

صحيح أن الاتفاق على فرض حد أدنى من الضريبة لا يقل عن ١٥٪ على أرباح الشركات عابرة الحدود قد ينهي السباق بين الدول على استقطابها من خلال تخفيض الضرائب، لكن المؤكد أن ذلك السباق سيبقى وسيستمر باستخدام وسائل أخرى غير ضريبية. ومن أهم وسائل التسابق والتنافس في هذا المجال هو ما لدى الدول من قدرات وموارد بشرية مؤهلة بأحدث المعارف والمهارات، خاصة أن الشركة المستهدفة بالاتفاق هي بالدرجة الأولى شركات التقانة ونظم المعلومات.

هذا بالإضافة إلى الأنظمة الإدارية الكفؤة، والبنى الأساسية الحديثة بما فيها من مرافق ووسائل اتصال، وكذلك القوانين المرنة التي تتجاوب مع المستجدات في التقانة وفي الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى الدبلوماسية الاقتصادية الفاعلة، وهي جميعا وسائل مهمة في جذب الشركات والاستثمارات الأجنبية، خاصة في مرحلة ما بعد هذا الاتفاق.

أخيرًا لا بد من الإشارة إلى أنه إلى حين البدء في تنفيذ هذه الاتفاق في أكتوبر من عام ٢٠٢٣ فإن على الجهات المعنية بالاستثمار وبالضرائب دراسة الآثار التي ستنجم عنه والإفصاح عما تتوصل إليه واتخاذ ما يلزم لجذب الاستثمارات والشركات الأجنبية، وما إذا كان ذلك يحتاج إلى أسس وقواعد جديدة. ومن المفيد كذلك أن تقوم غرفة تجارة وصناعة عمان والجمعية الاقتصادية العمانية وجمعية البنوك وجمعية المحامين العمانيين بالتعريف بهذا الاتفاق والآثار التي ستترتب عليه في المجالات الاقتصادية المختلفة.

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية