الصحافة وضرورات الإصلاح الإخباري

21 سبتمبر 2021
21 سبتمبر 2021

أ.د. حسني محمد نصر

كثيرا ما يطرح السؤال عن السبب أو الأسباب التي أدت إلى عزوف الناس أو بالأصح، قطاع عريض منهم عن شراء وقراءة الصحف اليومية. وكثيرا أيضا ما نرد ذلك إلى المنافسة غير العادلة التي تواجهها الصحافة الورقية من وسائل الإعلام الأخرى سواء كانت وسائل تقليدية مثل التلفزيون والراديو أو وسائل جديدة مثل المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، ونتجاهل السبب الذاتي الكامن في الصحافة نفسها، والمتمثل في حالة الضعف الإخباري الذي أصبحت تعاني منه، والذي يحتاج إلى إصلاح عاجل إذا أردنا لصحافتنا المطبوعة إن تستمر باعتبارها إحدى أهم وسائل الإعلام المؤثرة في بناء المجتمعات.

الحقيقة التي يجب أن نعترف بها أن القارئ يسعى إلى استخدام وسيلة الإعلام التي تشبع حاجاته المعرفية والثقافية والترفيهية، ولن يعود إلى الصحف إلا إذا أعادت صياغة استراتيجياتها الإعلامية والإخبارية تحديدا لتكون كما كانت من قبل المصدر الأول للأخبار الموثوقة في المجتمع. ولنا في تجارب الصحف الكبيرة الصامدة حتى الآن عظة وعبرة. فهذه الصحف لم تنكفئ على ذاتها ولم تتعلل بمنافسة الوسائل الأخرى بل عملت على إصلاح غرف الأخبار وتزويدها بالإمكانات البشرية والتكنولوجية اللازمة، واستطاعت بذلك الخروج من النفق المظلم، واستعادة جزء كبير من قرائها سواء للنسخة الورقية أو للنسخ الرقمية المتعددة القائمة على النسخة الورقية.

إن الإصلاح الإخباري الذي ندعو إليه لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة لا تستطيع الصحف توفيرها في الوقت الحالي، ولكن يحتاج إلي إيمان إدارات المؤسسات الصحفية بأولوية هذا الإصلاح، وقناعة الصحفيين بأهميته حتى يستمروا في عملهم وحتى لا تتوقف صحفهم كما توقف غيرها من قبل.

ولعل أول خطوة في هذا الإصلاح أن تعيد الصحف النظر في مفهومها للخبر، وتتخلص من المفاهيم التي سادت لفترة طويلة عندما كانت الصحف تحرص على أن يكون الخبر مرضيا وملبيا لاحتياجات الحكومة في المقام الأول وليس لاحتياجات القراء.

لم يعد الخبر في هذا الفضاء الإعلامي هو ما تريد الحكومة نشره على الناس، وإنما هو الذي يلبي لدى الناس حاجة حقيقية إلى المعرفة، ويقوم على أساس تقديم الجديد والمهم بالنسبة لمن يتعرض له. والواقع أن الضرورة تتطلب ألا تنشر الصحف الأخبار مثلما وردت إليها من المؤسسات الحكومية والخاصة، وأن يبذل الصحفيون جهدا في الكشف عن تفاصيلها والإجابة عن الأسئلة التي تركها الخبر الرسمي دون إجابة.

ويرتبط بذلك عدم الوقوف عند حد الأخبار الرسمية البسيطة التي تثير أسئلة أكثر مما تجيب عن تساؤلات القراء، والتي أصبحت لا تسمن ولا تغني من الجوع والنهم الإخباري الذي يميز قارئ اليوم عن قارئ الأمس. فنحن نكتب لقراء جدد يمكن أن ندفعهم إلى القراءة من خلال نشر التفاصيل ورواية القصص الإخبارية المركبة التي تتضمن زوايا متعددة، ومعلومات خلفية كافية عن أسباب الحدث وتداعياته المستقبلية.

من مظاهر الإصلاح الإخباري أيضا أن توازن الصحف بين الأخبار الجادة وبين الأخبار الخفيفة. من الطبيعي أن تركز الصحف على الأخبار الجادة التي تتناول موضوعات ذات طبيعة آنية عن الحوادث والنزاعات التي وقعت للتو أو على وشك الحدوث وتمس المصالح الحياتية للناس، كالأخبار الاقتصادية، والتجارية، والأخبار السياسية، وأخبار المواصلات، والطقس، والجرائم والحرائق، على أساس أن الجمهور في غالبية دول العالم يفضل هذه الأخبار بشكل عام.

ومع ذلك فإن الصحف يجب أن تلبي حاجة قرائها أيضا من الأخبار الخفيفة التي عادة ما تكون عن اتجاهات وأحداث وأشخاص مثيرين للاهتمام وتروى في قالب قصصي وتحقق وظائف التسلية والترويح وتقدم المتعة والمعلومة وتركز على الاهتمامات الإنسانية. وقد أكدت البحوث العلمية في هذا المجال أن هذا النوع من الأخبار الخفيفة التي لا تعطيه الصحف الاهتمام الكافي يزيد تفضيله لدى النساء أكثر من الرجال، ولدى صغار السن أكثر من كبار السن في كل دول العالم تقريبا.

التوازن أيضا يجب أن يكون قائما في الصحف بين الأخبار السلبية وبين الأخبار الإيجابية. وإذا كان هذا التوازن يبدو صعبا، إلا أنه ليس مستحيلا. ففي حين تركز الصحافة في بعض الدول على الأخبار الإيجابية السارة فقط خاصة في الشأن المحلي، فإنها تركز في دول أخرى على الأخبار السلبية فقط، التي تتعلق بأحداث غير سارة مثل الأزمات والحروب والإرهاب والقتل والجريمة والتلوث والأوبئة وعدم المساواة في المقابل. وتقوم المعادلة الإعلامية على أن الأخبار الجيدة لا تحتاج إلى رواية لأنها تعني أن الأمور تسير سيرها المعتاد. لذلك يقال دائما، حتى على المستوى الشخصي، إن عدم وجود أخبار هو في حد ذاته خبر جيد وإيجابي. ويبقى للأخبار السلبية مكانتها الأساسية في وسائل الإعلام، إذ تؤكد ممارسات هذه الوسائل إيمانها الشديد بأهمية وقيمة المعلومات السلبية كمحرك للمبيعات والإعلانات.

وأثبتت التجارب أن مبيعات إحدى الصحف الروسية كانت تزيد بنسبة تقارب 30% عندما يكون الغلاف سلبيًا، وتنخفض في أيام نشر «الأخبار السارة» بنسبة 66%.

وتكتسب الأخبار السلبية أهميتها من المثل الشائع «إذا كان ينزف- أي الخبر- فإنه يتصدر»، ويعني أن وسائل الإعلام باختلاف منصاتها تفضل نشر الأخبار السيئة، لأن الناس يفضلونها على الأخبار الجيدة. وترى عالمة النفس «ديبرا سيراني» إن وسائل الإعلام تهتم بنشر الأخبار المستندة على إثارة الخوف، وهو ما يؤدي إلى إصابة الناس بالقلق والاكتئاب من التعرض المفرط لهذه النوعية من الأخبار.

ويعود وجود الكثير من الأخبار السيئة في وسائل الإعلام إلى أن الناس يجدون الأخبار السيئة أكثر إثارة للاهتمام من الأخبار الجيدة. وقد كشفت دراسة شملت أكثر 17 دولة أن الناس يهتمون بالأخبار السلبية أكثر من الأخبار الإيجابية، وأن التحيز البشري تجاه الأخبار السلبية هو ما يدفع الصحف إلى التوسع في التغطية الإخبارية السلبية. ويعود تفضيل الناس للأخبار السلبية إلى أن تجاهل المعلومات السلبية (مثل خبر قدوم عاصفة) قد يكون أكثر خطورة عليهم من تجاهل الأخبار الجيدة. وعلى هذا فإن الاهتمام الإنساني بالأخبار السلبية، هو بشكل عام استراتيجية فعالة للبقاء بالنسبة للجمهور والصحف.

ويشير تقرير «رويترز» عن حالة وسائل الإعلام في العالم في 2019 إلى وجود نسب مرتفعة من جماهير وسائل الإعلام في العالم تتجنب التعرض للأخبار السلبية، وتصل تلك النسب إلى 56% في كرواتيا و55% في تركيا و54% في ألمانيا. وتُرجع النسبة الأكبر من هؤلاء تجنب التعرض للأخبار إلى تأثيرها السلبي على أمزجتهم، إلى جانب عدم الشعور بقدرتهم على فعل أي شيء إزاء ما يجري في العالم. ولعل هذا ما دفع مؤسسات إعلامية كبيرة في العالم إلى تبني مبادرات جديدة لزيادة نشر الأخبار الإيجابية.

وعلى سبيل المثال أطلقت مؤسسات إعلامية ألمانية مبادرة «الأخبار البطيئة»، وأطلقت مؤسسات أخرى من بينها هيئة الإذاعة البريطانية مبادرة «الصحافة البناءة». ويعتقد أصحاب هذه المبادرات أن النماذج والمداخل الإخبارية التقليدية قد انهارت، وأن على الصحف أن تستجيب لذلك عن طريق البحث عن طرق للتغطية الخبرية ذات معنى وشاملة وأقل سلبية. في نفس الوقت تحاول مؤسسات إخبارية أخرى سد الفجوة بين التدفق الإخباري الهائل الذي يسبب تخمة معلوماتية وبين توفير شرح للأحداث والأخبار خاصة للشباب. وعلى سبيل المثال فقد قامت مجموعة فوكس الإعلامية ببناء منصة للصحافة التفسيرية تهدف إلى زيادة فهم الجمهور للقضايا والأحداث المعقدة.

من خلال مثل هذه المبادرات التي تندرج تحت الإصلاح الإخباري الذي ندعو إليه، تسعى الصحافة في دول كثيرة إلى استعادة مكانتها وتجنب الخروج من السوق الإعلامي، وما أحوج صحافتنا العربية إلى مثل هذا الإصلاح! .